تؤسس الجهود الوطنيَّة في تحقيق أولويَّة رؤيَّة عُمان 2040 ذات الصلة بـ»تنمية المحافظات والمدن المستدامة «، وما تم إنجازه في هذا الشأن على مستوى تأطير المفاهيم وإنتاج التشريعات وتقديم البرامج ومبادرات الدعم المالي واستراتيجيات وأدوات العمل، والمشروعات التنمويَّة في اقتصاديات المحافظات ذات العلاقة بالشأن السياحي والمناطق الاقتصاديَّة والصناعيَّة، والَّتي أضاف إِلَيْها مسار التقييم الشامل لمسار اللامركزيَّة الَّذي وجه إِلَيْه جلالة السُّلطان المعظم في عاطر خطابه السامي بمناسبة الانعقاد السنوي الأول للدَوْرة الثامنة لمجلس عُمان في الرابع عشر من نوفمبر من عام 2023 بقوله: «وعملًا بمبدأ التدرج في سياساتنا وقراراتنا، ومتابعةً منا لما سيُثمر من نتائج مأمولةٍ من واقع تنفيذ سياسة اللامركزيَّة في المحافظات، فإنَّنا عاقدون العزم على تقييم هذه التجربة باستمرارٍ، وتوسيع نطاقها؛ بحيث تشمل قِطاعاتٍ متعددة، ومناحي شتى، .. «، مرحلة متقدمة في مسيرة تثبيت معالم اللامركزيَّة المنتجة في سلطنة عُمان باعتبارها استحقاقًا وجوبيًّا لا يقبل التأخير ولا ينتظر الموافقات.
وبالتالي اتساع قراءة مسار هذا التقييم الوطني الشامل لأبعاد اللامركزيَّة ليشمل: آليَّة تنفيذ برنامج المحافظات المالي وتقييمه، وتقييم المسار الإداري والتنظيمي وآليَّات العمل، وفاعليَّة دَوْر المحافظين والولاة والمساعدين، ومكاتب المحافظات، ومسار تقديم الخدمات الحكوميَّة من وجهة نظر المواطنين المستفيدين، والتكامل بَيْنَ مؤسَّسات المحافظة، ودرجة التنسيق والتناغم في التوجهات المتعلقة بالجودة والابتكار واستخدام التقنيَّات والاحتواء الاجتماعي ودراسة الظواهر السلبيَّة، وصولا إلى مسار تقديم الخدمات الحكوميَّة للمواطنين ووقت الانتظار والتشعب الحاصل في الحصول على الموافقات، بل أيضًا في فتح نوافذ الأمل للمواطنين والمستثمرين في توظيف الفرص والأراضي الَّتي لدَيْهم في المحافظة؛ لإقامة مشاريعهم الاقتصاديَّة والسياحيَّة والتجاريَّة والزراعيَّة والصناعيَّة وحجم العراقيل الَّتي تواجهها طلباتهم، ولغة الرفض الَّتي أصبحت سائدة للخروج من مشكلة تردد المواطن على هذه المؤسَّسات، إننا نؤكد على أن الانطلاقة من الميزة التنافسيَّة للمحافظات ومراعاة مسار الخصوصيَّة وتعظيم قيم الرحمة وتقدير الظروف واستشعار شغف الرغبة في العطاء في منظومة عمل المحافظات، سوف تقدم نتائج مثمرة، ثم مراعاة خصوصيَّة المحافظات في القرارات الوزاريَّة الإسكانيَّة والزراعيَّة والسياحيَّة والخدميَّة وغيرها سوف تقدم فرص نجاح مبهرة، شريطة أن تصاحبها الإرادة ويحتويها الإخلاص ويحفظها ضمير المسؤوليَّة ويصونها القانون.
ومع الاعتراف بأن جديَّة التحول ماضيَّة وتشق طريقها بإذن الله وبرعايَّة مولاي حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المعظم، لتحقيق هذه المسار التنموي الطموح، إلا أن مسار تقديم الخدمات على مستوى المحافظات ما زال يعاني من تحدِّيات بيروقراطيَّة وتنظيميَّة، بحاجة إلى المزيد من الجهد والإخلاص والعمل المتقن والروح الوطنيَّة الجادة للوصول إلى الغايات المنشودة من اللامركزيَّة، إذ ما زالت عمليَّات التطوير المتوقعة من اللامركزيَّة والَّتي تنعكس على أداء المؤسَّسات، وتقديم الخدمات وتبسيط الإجراءات والتسريع في المعاملات والتصاريح، وفتح آفاق أوسع للمواطن في إقامة مشاريعه والَّتيسير علَيْه ومراعاة ظروفه أو تشجيعه على الاستثمار، تعاني من حالة البطء وغياب التكامل المستدام بَيْنَ المؤسَّسات الحكوميَّة في المحافظة، وضعف مستوى الشراكة بَيْنَها، وغياب استخدام التقنيَّات الحديثة في أكثر هذه المؤسَّسات، والَّتي تستهدف إشعار المواطن أو مقدم الطلب بموقع طلبه والإجراءات الَّتي يمر بها، كما ان التخلص من عقدة الأنا بَيْنَ المؤسَّسات ما زالت تسير ببطء، وما زال على المواطن أو صاحب الطلب للحصول على الخدمة البلديَّة والإسكانيَّة والسياحيَّة والزراعيَّة والتجاريَّة والصناعيَّة أن يمرَّ على كل هذه المؤسَّسات حامًلا معه أوراقه، متنقلا من مؤسَّسة إلى أخرى في النطاق الجغرافي نفسه، وما زال عَلَيْه أن يأتي من محافظته الَّتي يسكن فيها إلى المحافظة الَّتي يرغب في تنفيذ مشروعه فيها، أو يحقق فيها مصالحه، ناهيك عن حالة عدم الثقة او الاعتراف من قبل القائمين على بعض المؤسَّسات بما يتم اتخاذه من قرارات أو توجهات أو رأي من مؤسَّسات أخرى في المحافظة نفسها، أو أن إنجاز هذه المعاملة يجِبُ أن يكُونَ بشكل ورقي ومعتمد خطيا من المدير، وغيرها من الممارسات – رغم عدم التعميم – الَّتي باتت تتناقض مع مسار اللامركزيَّة.
وعَلَيْه فإن من الأولويَّات الَّتي يجِبُ أن تعكسها جهود المحافظات في ميادين العمل يكمن في قدرتها على خلق مسار التوأمة بَيْنَ عمل المؤسَّسات الحكوميَّة الموجودة في نطاق المحافظة وولاياتها، وتعزيز روح التكامليَّة المنظمة بَيْنَ القِطاعين الحكومي والخاص، وأبناء المحافظات عبر مبادرات المواطنين وحضوره النوعي في مسيرة التطوير والإنتاجيَّة، وتوظيف الموارد الوطنيَّة بالمحافظة وحسن الاستثمار فيها وتوجيه الاهتمام بالمورد البشري وتعميق حضوره في كل مفاصل العمل بالمحافظة، وتعزيز إنتاجيَّة المجالس البلديَّة، وتعميق جسور التواصل والتكامل في أدوار المجالس البلديَّة مع مختلف شرائح المُجتمع، من أجل الوصول إلى حلول جذريَّة للتحدِّيات، واستغلال حكيم للفرص، واستثمار نوعي للأدوات، والانتقال من الدائرة المغلقة الضيقة الَّتي تعمل فيها الإدارات إلى فتح آفاق أوسع في ضمان الشراكة الفاعلة والجادة والتكامل المطلق بَيْنَ جميع المؤسَّسات الحكوميَّة الموجودة في المحافظة، وانعكاس ذلك على الاستقرار الاجتماعي للمواطنين، وتبسيط الإجراءات وتقليل الهدر الناتج من البيروقراطيَّة والعمليَّات المتكررة، وتحول جذري في مسار أداء التراخيص والمعاملات وتقديم الخدمات، أو كذلك في ما يتعلق بالترويج للمحافظة وولاياتها وجذب الاستثمارات السياحيَّة والتعليميَّة والاقتصاديَّة والتجاريَّة، الأمر الَّذي يظهر في ما ينتج عنه من حراك اقتصادي وحركة سياحيَّة مستمرة ودخول استثمارات وتوقيع اتفاقيات استراتيجيَّة مع المؤسَّسات والشركات المتخصصة، أو كذلك ما يتعلق ببنية المشاريع الخدميَّة والأساسيَّة، مثل: شبكات الطرق ورصفها وصيانتها وإنارتها، والتعامل مع مطالب المواطنين بشأن توفير الخدمات الأساسيَّة لهم بشكل أسرع وفي وقت قصير.
أخيرا فإن ما يحصل وللأسف الشديد من تلكؤ وبطء وعدم انسيابيَّة وتدني مستوى المرونة والجودة والتفاعل في مسألة الإجراءات التنظيميَّة وأساليب العمل، لا يُمكِن أن تحقق التوجهات الوطنيَّة بشأن تعزيز الخريطة الاستثماريَّة للمحافظات وتطوير بيئات الأعمال لتعزيز الاستثمار والاستدامة الاقتصاديَّة، ورفع التوقعات الوطنيَّة بشأن المؤسَّسات الصغيرة والمتوسطة والأوامر الساميَّة لجلالة السُّلطان المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ للجهاز الإداري للدولة باتخاذ الإجراءات لتهيئة البيئة المناسبة الَّتي تساعد المواطنين على الالتحاق بكافَّة الأعمال، وتوعيَّة الشَّباب بفلسفة العمل وثقافته السائدة عالميًّا، وتشجيعه على خوض مجالات الأعمال الحرة؛ مع ما تتطلبه من تكامليَّة في الأدوار وتقديم خدمات وطنيَّة شاملة لها صفة التنوع والابتكاريَّة والتجديد، وتبني أفضل أساليب العمل الَّتي تتجاوز حالة المنع والرفض المتكررة إلى فتح آفاق أوسع للمواطن بحيث يجد في بيئة المحافظة مساحة أمان له في تنفيذ مشروعاته، بحيث تتسم آليَّة التعامل مع هذه المساحة الاستثماريَّة بالتوسع في الخيارات والبدائل والسرعة والمرونة في الإجراءات، وتقليل فائض العمليَّات المتكررة، والهدر الناتج عن التطويل في إجراءات التراخيص، وبالتالي أن يتجه الاستثمار سواء كان ذلك الَّذي يتجاوز مليون ريال عُماني أو الاستثمار الَّذي يقل عن ذلك، بحيث يحصل الجميع على الخدمة بسهولة ويسر ووفق إجراءات مبسطة وتنافسيَّة ومحفزات داعمة، فإن قدرتنا على رسم صورة مشرقة لهذا المسار وسعي المحافظات نَحْوَ إيجاد هذه المنصَّة الاستثماريَّة والترويجيَّة والأدائيَّة والخدميَّة سوف يصنع الفارق وتتجه بالشَّباب والمستثمرين بالمحافظات إلى طرق أبواب الاستثمار وفتح آفاق أوسع له في سلوك المواطن الباحث عن عمل والمسرح عن عمله في توظيف مهاراته وخبراته في بناء مشروعه القادم، بل حتَّى طلبة التعليم العالي في ظل الحاجة إلى تغيير السياسات الدعم المقدمة من بنك التَّنمية وضرورة اتجاهها إلى المزيد من النضج والتفاعل والإنتاجيَّة والكفاءة الأدائيَّة، وعندما تتهيأ فرص الاستثمار، وتتجاوز الترهلات الحاصلة، وتنمو عقليَّة الوفرة والمرونة والتبسيط في سيناريوهات العمل، والتوسع في الخيارات، والابتكاريَّة في إدارة المعطيات، والوقوف على ما يرصده المجلس البلدي من تحدِّيات ومشكلات في قدرة المؤسَّسات على التعامل مع حركة الاستثمار والتطوير؛ عندها تصبح الفرص مواتية لصناعة الفارق، وتتحول المحافظات حينها إلى حركة اقتصاديَّة استثماريَّة غير مسبوقة.
د.رجب بن علي العويسي