أبي ….
أقتربُ من السبعين وما زلتُ أرتعشُ كلما التقيتك ، وكأنَّ العمر الذي تصرَّم لم يشفع لي بالثبات.
وكلما كتبتُ سطراً في مقال تذكَّرْتُ أنك ستقرأه فأحذفه.
وأجاهد لأتأنَّق في السَّبْك فأعاود الكتابة وأعاود المحو ، فاستحقاقك أن تقرأ لتلاميذك ما يعبِّر عن سمو ذائقتك.
وعن رقيِّ تنشئتك للأجيال.
وبما يليق بالروح التي تشعها في نفوس تلاميذك.
أبي …
أعترفُ أنني والبعض من جيلي قد خذلناك ، ولكن حبال أنفاسك كانت الأطول.
وأنَّنا أتعبناكَ فكان خزينك من الصبر علينا هو الذي لا ينفد.
وأنك بدلاً من أن تفرح بغرسك فينا كنا للأسف خيبات مواسمك.
وكنتَ تعوِّل على الغد الذي تراه لنا ولا نراه.
وتعدّه لنا على مهل فكنا نستعجل النتائج.
جئنا إلى أكاديميتك بعفويتنا وجنوننا ونزقنا لتخلق منا جيلاً يعبر عن تكليفك الوطني ، ولكن المسافة بين استشرافاتك للغد وقدراتنا ، ببعد الثريا عن الثرى.
أبي…
صحبناكَ في الأسفار فكان الوطن يسكنك.
ورافقناك في السيوح السلطانية فكانت خيمتك الوحيدة التي لا تطفئ سراجها ، فكنتَ بين قراءة ما كُتِبَ عن الوطن وما يجب أن يكتب عن الوطن.
وكنَّا نقلقك بهواتفنا في الهزيع الأخير من الليل وأنت بين يقظة وإغفاءة لنضعك في الصورة من تطورات عالمية بثتها “رويترز”. وعن مستجد استبقت به الوكالة الفرنسية يؤثر في الإقليم ، وذلك قبل أن يعرف العالم الهاتف المحمول وقبل البث الألكتروني لوكالات الأنباء.
وكانتْ آمالكَ كبيرة فينا وليتنا طاولناها.
وكانتْ ثقتكَ فينا عالية وليتنا قاربناها.
ويوم ترحل يا أبي فإن أنقى ما بقي لنا سينطفئ معك.
ولعل هذا العزاء في بيوت الكثير من الإعلامين هو اليوم بذات الحزن النازف عليك في بيتك ومن عائلتك ، فهم عائلتك وغرسك وإن لم يعجبك الزرع.
أبي …
كنت أرتعش حين أكتبُ لأنك ستمر على الحروف.
وهأنذا أموت خوفا وأنا أكتب ، لأنك بيننا بيراعك ومدادك وقرطاسك ونظرتك الأبوية التي ترمق السكنات والحركات.
وأنك كما كنت ستمر على الحروف.
حمود بن سالم السيابي
مسقط في ١٨ أغسطس ٢٠٢٤م