تحتفل إسرائيل في شهر مايو من كل عام بذكرى تأسيسها، وهي نفس ذكرى النكبة الفلسطينية. وكلما تعمق المرء في جذور المحنة الفلسطينية، تبين أنه لم تكن هناك قوة يمكنها أن تحول دون ضياع فلسطين وتشريد الفلسطينيين. فمن أي زاوية تنظر، تجد أن المحنة كانت حتمية، ولعل ذلك ما يدركه الجميع الآن، سواء من خلال التحليل الدقيق للوضع العربي، أو من دراسة تاريخ الحركة الصهيونية.
إلا أن الوثائق التي بدأ الكشف عنها مؤخراً تسلط الضوء على جوانب أخرى عديدة لم يكن أحد على إلمام كافٍ بها، ورغم أنها تؤكد نفس النتيجة الحتمية، إلا أنها توضح مدى الانحطاط الذي تهاوت إليه بعض الشخصيات البارزة في تاريخ محنة الشعب الفلسطيني، وخاصة تلك التي أتاح لها الظرف التاريخي أن تلعب دوراً مركزياً في خلق الكيان الإسرائيلي.
إن بلفور، الذي تنهال عليه اللعنات صباحاً ومساءً، لم يكن سوى هامش ضئيل في كتاب المأساة، أما الذي كتب أغلب سطورها بحرص ودأب فهو شخصية أخرى تتمتع باحترام هائل في العالم كله، بل وأزعم أنه يتمتع بنفس الاحترام في العالم العربي، رغم أن الوثائق تشير إلى أنه كان يحتقر العرب ويصفهم بأوصاف متدنية لا تجدر أن تصدر عن شخص يمتلك أدنى قدر من الثقافة. هذه الشخصية بلغ عشقها للصهيونية حدوداً جاوزت عشق العديد من اليهود أنفسهم لها، ووقف بصلابة ولمدة تصل إلى نصف قرن إلى جانب الحركة الصهيونية حتى تأسست دولة إسرائيل، واستمر يساندها إلى آخر نفس في حياته.
إنه “ونستون تشرشل” رئيس وزراء بريطانيا العظمى أثناء الحرب العالمية الثانية، والذي كان يفاخر بأنه “صهيوني قديم”، ويعد دوره في دعم الحركة الصهيونية من أخطر الأدوار، لدرجة أن حاييم وايزمان وبن جوريون وغيرهما من قادة هذه الحركة قد أجمعوا بأنه لولا الدور الذي قام به تشرشل لما كان ممكناً أن تنشأ دولة إسرائيل.
لم ينكر تشرشل في مذكراته أن والده كان لديه علاقات خاصة بالعديد من أثرياء اليهود وخاصة عائلة روتشيلد. وهذه العائلة هي التي قامت بتمويل رئيس وزراء بريطاني يهودي آخر، وهو دزرائيلي، في شراء أسهم مصر في قناة السويس. وقد كشفت الوثائق أن تلك العائلات اليهودية الثرية قد تولت ونستون الصغير بالرعاية، وتدخلت لمساعدته مالياً أكثر من مرة، كما أسهمت في تلميعه للصعود إلى قمة المجتمع الإنجليزي قبل الحرب العالمية الأولى. والأمثلة على ذلك قد أصبحت كثيرة ربما تم تناولها في مقالات أخرى، ولكن ما أريد أن أوضحه هو أن تلك الرعاية اليهودية للأسرة قد امتدت من آباء ونستون واستمرت إلى أولاده وأحفاده. ومن المعروف أن سارة ابنة تشرشل قد تزوجت من يهودي (كان قد سبق زواجه مرتين).
وربما لا يعنينا كثيراً الاختيارات العاطفية أو الانحرافات الوظيفية لهذا الرجل، علماً بأنه تكرر اتهامه في بريطانيا نفسها بأنه “يتربح من علاقاته مع اليهود”، فذلك أمر يخصه ويخص بلاده، ولكن المشكلة هي أن تلك الاختيارات والانحرافات قد أثرت بشكل مأساوي على حياة الملايين في الشرق الأوسط، لأن ذلك الرجل تولى أخطر المناصب في بريطانيا الإمبراطورية في توقيت مفصلي وحرج اشتمل على حربين عالميتين، الأولى منهما شهدت انتهاء الإمبراطورية العثمانية، وبدء الانتداب البريطاني على فلسطين، بينما شهدت الثانية ما أطلق عليه “الهولوكوست”، وقد كان تشرشل في الحالتين أكبر مروج للفكرة الصهيونية، وأهم فاعل في تثبيت التسلل الصهيوني وتوسيعه في فلسطين.
ستكشف الوثائق البريطانية ومراسلات تشرشل عن الدور الذي لعبه حين أصدر الكتاب الأبيض عام 1922 الذي ينظم عملية الهجرة اليهودية إلى فلسطين أو بمعنى آخر يشجعها، ولقد عرف هذا الكتاب بأنه “كتاب تشرشل”. كما تكشف مراسلاته ولقاءاته مع حاييم وايزمان خلال نفس الفترة عن الخطة التي وضعها تشرشل لابتلاع فلسطين التاريخية بالكامل تدريجياً، بل إنه وصل إلى حد اقتراح إضافة مناطق أخرى مثل ليبيا وأريتريا كي تكون تابعة لدولة إسرائيل التي ستنشأ على أنقاض دولة فلسطين.
سوف يتضح أيضاً وقوف تشرشل بصلابة ضد الكتاب الأبيض الثاني الذي صدر عن الحكومة البريطانية وبأغلبية ساحقة لمجلس العموم البريطاني عام 1939، والذي يحدد عدد المهاجرين اليهود بحيث تستمر الأغلبية العربية، وتقوم بتقرير مصيرها خلال أربعة أعوام. فقد رأى تشرشل أن ذلك سيؤدي بالتبعية إلى موت الفكرة الصهيونية، لأن الدولة الجديدة لن تسمح بمهاجرين جدد، لذلك فقد استمات في معارضة هذا الكتاب، رغم إقراره بأن ذلك غير دستوري لأن ذلك الكتاب قد صار قانوناً بعد تصديق مجلس العموم عليه.
وسنجد أن تشرشل رغم مشاغله أثناء أحداث الحرب العالمية الثانية، والقنابل التي كانت تتساقط على لندن، فإنه كان لا يزال يقاوم الكتاب الأبيض الأخير، ويحاول المرة تلو المرة أن يقنع مجلس الوزراء بالموافقة على تشكيل الكتيبة اليهودية التي تحمل علم صهيون وضمها لقوات الحلفاء. ورغم معارضة المجلس الشديدة، بل ورغم أن أحد القادة “وايفل” قد حذره من تأثير ذلك على حلفاء بريطانيا في العالم الإسلامي والعربي، إلا أن تعليقه كان “سيمر كل شيء على حاله ولن تجد كلباً ينبح معترضاً”.
وفي النهاية، وقبل أن تضع الحرب أوزارها، استطاع بالفعل أن يقنع المجلس بضم القوة اليهودية إلى قوات الحلفاء التي نجحت في النزول على شواطئ إيطاليا.
وحتى عندما اشتدت الحركات اليهودية الإرهابية (مثل أرجون وشتيرن) وزاد عدد القتلى من الضباط الإنجليز في فلسطين، فإن تشرشل وقف في مجلس العموم كي يبرر هذه الأعمال الإرهابية في مواجهة غضب عارم في المجلس، ولعل الكلمة التي ألقاها آنذاك (بعد حادثة تدمير فندق الملك داود في القدس) تعد من أبلغ الكلمات التي عبرت عن دفاعه الأعمى عن الحركة الصهيونية.
سوف نجد تشرشل أثناء الحرب العالمية الثانية يتبنى بقوة ما تردد عن وجود مذابح تقوم بها قوات النازي في أوروبا، ويركز بشكل خاص على ما يتعرض له اليهود، رغم أن مراكز الاعتقال النازية كانت تضم آلافاً من جميع الجنسيات والأديان. وعند مراجعة خطابات تشرشل أثناء هذه الفترة سيتبين بوضوح أنه كان مصدر المبالغة في الأرقام، بل إنه طالب بتعويض اليهود وكأن لا أحد غيرهم قد تعرض للكارثة النازية، وواصل إرسال التحذيرات للقادة النازيين بأنهم لن يفلتوا من العقاب إذا استمروا في قتل اليهود. ولقد سأله أحد النواب البريطانيين وقتها ساخراً لماذا لا يطالب أيضاً بتعويض سكان الجزيرة البريطانية عن الأضرار التي حاقت بهم نتيجة للقصف الألماني؟
وبعد الحرب، وحين أدرك تشرشل زوال شمس الإمبراطورية البريطانية، فإنه نصح وايزمان أن يركز على أمريكا، بل قام بنفسه بإرسال خطابات إلى كل من روزفلت ومن بعده ترومان كي يحثهما على دعم الحركة الصهيونية. وقد كان في البداية يعارض تقسيم فلسطين، لأنه كان يرى أنها يجب أن تؤول بالكامل لليهود، وقد كان يفاخر وهو يحدث أصدقاءه من أثرياء اليهود بأنه مهد الطريق بأن قام بعد الحرب العالمية الأولى بتقليد الملك عبد الله إمارة شرق الأردن.
ولكنه وبعد أن أصبح خارج الحكم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، سلم بأنه من المستحيل أن يقاوم فكرة التقسيم،
واعتبرها مرحلة مبدئية يمكن بعدها لدولة إسرائيل الوليدة أن تواصل قضم ما تبقى من فلسطين وربما ما هو أكثر.
لذلك سوف نجده يسخر ممن اعترض على تمدد إسرائيل خارج حدود التقسيم واستيلائها على النقب، ويردد بأن قواتها المسلحة هي التي قامت بذلك واكتسبت الأرض!
ولقد ظل ونستون تشرشل مخلصاً في ولائه للصهيونية حتى النهاية، وكان يتدخل لمساعدة إسرائيل حتى وهو خارج السلطة، مثلما تشير الوثائق إلى ما فعله أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.
ولقد مات وهو يناهز تسعين عاماً من عمره، ولا ندري ما الذي كان يمكن أن يفعله أيضاً إذا عاش أكثر من ذلك.
هذا المقال ليس إلا إشارة شديدة الاختصار تلقي بعض الضوء على الدور الذي لعبه ذلك الرجل في مأساة الشرق الأوسط، ولكنني لا أظن أنها كافية لإيضاح عمق وخطورة هذا الدور الذي استمر لمدة تزيد على نصف قرن، لأن قراءة ما أتيح من مذكرات ورسائل ووثائق بريطانية رسمية حول هذا الدور تؤكد هوساً مرضياً لهذا الشخص بالفكرة الصهيونية.
وأؤكد لكم أن تلك القراءة مؤلمة، ولكنها ضرورية كي نفهم بعض ما يدور حولنا الآن. ولا أظن أنه في النهاية قد خدم اليهود، فقد تسبب في استمرار نزيف الدم حتى الآن في الأرض المقدسة، في حين تؤكد كل الشواهد على إفلاس النظرية الصهيونية واقتراب موعد أفولها.
معصوم مرزوق