الوظيفة أرصدة أخلاقيَّة تلتصق بجدار الذَّات وترتسم في تفاصيل النَّفْس والشعور والسلوك، وهي التزام ذاتي نَحْوَ تعظيم أثرها في سلوك الفرد فيمارسها بصدق ويؤدِّيها بوعي ويحافظ على مهامها بشغف، إنَّها التزام نَحْوَ الآخر الوطن والمواطن وكُلِّ مستفيد من أمْرِ هذه الوظيفة، تكليف ومسؤوليَّة، تضع القائم عَلَيْها أمام واقع عملي عَلَيْه أن يتعاملَ معه بجديَّة ويتفاعل مع معطياتها بأمانة وصدق، فيضع نفسه من خلالها في موقف المسؤوليَّة والالتزام وخدمة الآخرين ورعاية شؤونهم بحسب ما تقرُّه من التزامات وما تحويه من مهام وتؤطره من قواعد العمل، ليجدَ في ذلك فرصته للتميُّز والوفاء بالتزاماته فيؤدي واجباته ومسؤوليَّاته بكُلِّ احترافيه وتفانٍ. إنَّ الوظيفة والعمل والمهنة مترادفات مفاهيميَّة لعملة واحدة وهي: الوطن، تجسِّدها أمانة الإنجاز وصدق الممارسة؛ وتصبح الوظيفة في ظلِّ هذا المعنى اندماجًا للذَّات المخلصة المؤتمنة على حقوق المواطنين ورعاية مصالحهم في روح الوطن، فتؤطِّر فيه أبجديَّاته وقِيَمه وأخلاقيَّاته، بما تغرسه في الموظف من مسؤوليَّة، وتؤسِّسه فيه من قِيَم الإخلاص والأمانة والمصداقيَّة والمهنيَّة والالتزام والحسِّ المهني، وعندما يؤمن الموظف بأنَّ الوظيفة تكليف لا تشريف، ومسؤوليَّة لا نزهة استجمام، وأمانة لا مفخرة، إنَّها انصهار الذَّات الوطنيَّة في حُبِّ الوطن الأرض والدَّولة والإنسان والانتماء الأصيل المتفرد له، ومساحة يجسِّد فيها المواطن حُب وطنه وأبناء وطنه فيخدمهم بصدق وأمانة، ويقضي حوائجهم ويُلبِّي مطالبهم بفخر وشرف واعتزاز بخدمتهم.
في كُلِّ إنجاز بَشَري هناك مُحدِّدات للوظيفة ونطاق عملها واختصاصاتها وهو أمر قد يسهل معرفة مستوى تحققه وإصدار حكم للمنجز مِنْه، من خلال استمارات وسلَّم تقديري معيَّن وتقييم أداء وظيفي، ولكن هناك أمرًا جوهريًّا يتعلق بهذا الإنجاز وهو مدى مسايرته وارتباطه بسلوك قِيَمي وأخلاقي ومُثل عُليا تكُونُ بمثابة الموَجِّه للفعل المنجز، والطريق لبلوغ الاحترافيَّة والنَّوعيَّة فيه، وهي بذلك مجموعة المبادئ والمُثل والسلوكيَّات والقناعات الَّتي تتوافر لدى الفرد أثناء إنجازه ما يُسند إِلَيْه من مهام في إطار أخلاقيَّات المهنة أو الوظيفة أو الفعل المنجز ذاته، لذلك باتت الأمانة الوظيفيَّة محلَّ اهتمام ومتابعة وتركيز من قِبل المؤسَّسات الَّتي تنشد الجودة والتنافسيَّة، فكُلُّ الموارد والإمكانات والأعداد الكثيرة من البَشَر في المُجتمع الوظيفي والخطط والاستراتيجيَّات والتسهيلات والحوافز والصلاحيَّات والممكنات في ظلِّ غياب رقابة الذَّات وحياة الضَّمير ونضج الوازع، وسُموِّ النَّفْس، ونزاهة الذَّات، هاملة هامدة غير ذات أثر وبِدُونِ جدوى، بل قد تتلاشى كُلُّ الجهود الكبيرة والموارد الماليَّة الضَّخمة في تصرُّفات وسلوكيَّات وممارسات تتنافى مع الخُلق وتضيع أمام رُقيِّ القِيَم، لذلك باتت المؤسَّسات المنتِجة والمتطوِّرة تعي هذا الجانب، وتدرك أهميَّته وتعمل على إحيائه في نفوس العاملين، وتأسَّست ـ في سبيل ذلك ـ منظومات التَّنمية البَشَريَّة والتدريب وبناء الذَّات والقيادة الاستراتيجيَّة وغيرها من المفاهيم والنظريَّات الَّتي تؤصِّل لدى العاملين في المؤسَّسات أخلاقيَّات العمل وقِيَم المهنة وترفع من ثقافة الوعي وحُسن التصرف والحكمة في معالجة الأزمات وإدارتها، والأسلوب الأمثل في التصرف مع المواقف، وأصبح رضا العاملين من أهم الجوانب الَّتي تدرك المؤسَّسات أهميَّتها، سواء ما يتعلق مِنْها بالسلوك الظاهري للموظف والَّذي يركِّز على مجالات الاتصال والتواصل والعلاقات الإنسانيَّة وأسلوب الخِطاب والعلاقة مع الرؤساء أو الزملاء أو المستهدفين، أو من خلال السلوك الخفي المرتبط بممارسة الفعل المنجز ذاته من حيث صبغته بالإخلاص والأمانة والنَّزاهة والشفافيَّة والصِّدق والموضوعيَّة والالتزام، أو من خلال المبادئ المرتبطة بالسلوك المهني ذاته والشعور بأهميَّة المبادرة أو الانتماء والتطوير الذَّاتي أو التجديد في العمل وتبسيط الإجراءات وتعظيم المسؤوليَّة، وانتقاء الأسلوب الأفضل والأمثل الَّذي يتناسب وضوابط العمل المؤسَّسي.
ومع كُلِّ ما ذكرنا فإنَّ تجسيد الأمانة الوظيفيَّة في الحياة المهنيَّة والمُجتمع الوظيفي مرهون بالنَّماذج المُضيئة والمواقف المبتكرة الَّتي يصنعها الموظف في مَسيرته المهنيَّة وسلوكه الوظيفي واحترامه للمسؤوليَّات، في صياغة نموذج عملي يجسِّد أولويَّات الوطن ومبادئه المؤصِّلة للنَّزاهة والمحاسبة والمساءلة والإتقان والالتزام والسَّمت الوظيفي والمحافظة على أخلاقيَّات الوظيفة والوفاء بما تحمله من تعهدات والتزامات نَحْوَ الوطن والمواطنين، وما تتَّجه إِلَيْه من تبسيط الإجراءات وحفظ الحقوق وتحفيز الكفاءة وترسيخ معايير الإنتاجيَّة وتوظيف التقنيَّة، كُلّ بحسب طبيعة مهامه وفي ظلِّ اختصاصات الوظيفة القائم على شؤونها، وهو الأمر الَّذي جاءت رؤية «عُمان 2040» مؤصِّلة له في أولويَّاتها، باعتباره الطريق السَّليم لقدرة المُجتمع الوظيفي في تخطِّي أزماته وتحدِّياته من جهة، وصناعة سلوك مُجتمعي يستنهض في أبنائه هِمم الإنجاز والعطاء وشغف المبادرة والتطوُّع وروح الإخلاص والمسؤوليَّة، كما يستنطق فيهم قِيَم التعاون والإخلاص والأمانة والنَّزاهة ومحاسبة النَّفْس، وبالتَّالي أن يصنعَ الموظف في التزامه وحضوره وثقافته وأسلوبه ورُقيِّ تعامله مع المراجعين وحُسن ردوده على مطالبهم ومقترحاتهم لتحسين العمل، وروح البشاشة الَّتي لا تفارق محياه في تقديم الخدمة للمواطن، وحرصه على متابعة المعاملات الَّتي ينجزها بحسٍّ مسؤول ورغبة أكيدة في الإنجاز، وقواعد السلوك القِيَمي والأخلاقي الَّتي يحملها، والتفاصيل اليوميَّة الَّتي يعيشها؛ يصنع فِقه المواطنة المنتِجة الَّتي تتجاوز الشكليَّات وتتَّجه للعُمق وتؤسِّس لمرحلةٍ متقدِّمة من الوعي الجمعي والوقوف مع المؤسَّسات في ما تتَّخذه من إجراءات أو تتَّجه إِلَيْه من خطط ومسارات، وتهيئ المواطن للتكيُّف مع الظروف الاقتصاديَّة في امتلاك أدوات المعالجة وبدائل الحلِّ وتوظيف مواقف الحياة في رسم ملامح مضيئة تنعكس على حياته وقراراته وحواراته ونمط حديثه مع الأسرة والمبادئ الَّتي يغرسها في أبنائه والأفكار الَّتي يتداولها في محيط عمله، والرؤية الَّتي يرسمها حَوْلَ جهود الحكومة وعمل المؤسَّسات.
أخيرًا فإنَّ ما يُشير إِلَيْه واقع الممارسة الوظيفيَّة من ترهُّلات وتباينات في سلَّم الإنجاز، وارتفاع سقف التظلُّمات الإداريَّة، وازدواجيَّة المعايير، وغياب الثَّوابت والمحكَّات الوظيفيَّة في مواجهة حالة الشَّخصنة الوظيفيَّة والإقصاء والتَّهميش والسَّحق الوظيفي، وغياب الرقابة الحقيقيَّة والمتابعة المنجزة لِمَا يدَوْر في فلك القرارات الوزاريَّة والإداريَّة الداخليَّة، رغم وضوح القانون؛ إنَّما يرجع إلى غياب الضمير وانتصار الأنا وغياب السَّماحة المهنيَّة، إذ إنَّ قوَّة الضَّمير ونُمو الوازع الأخلاقي والقِيَمي هي ما يحتاجه أي قانون أو تشريع وأي عمل ينشد العدالة والأمانة الوظيفيَّة، وهو يمثِّل القلب الَّذي إن صلح صلحت بقيَّة الأعضاء، وإن فسد فسدت بقيَّة الأعضاء، إذ باستقامة الضمير يطبَّق القانون وينفَّذ ويترجَم في واقع العمل في إطاره الصحيح، كما وتتلقَّاه النَّفْس عن قناعة وشعور بأهميَّته وأثره الإيجابي في تعزيز السلوك المتَّزن وخلق بيئة العمل المناسبة لبلوغه، فإنَّ المؤمل أن تسهمَ الجهود الوطنيَّة نَحْوَ تعزيز كفاءة الأداء الحكومي وإنتاجيَّته، وإعادة هيكلة الوظيفة العامَّة وقانون الوظيفة العامَّة المرتقب؛ في بناء أُطر ومحكَّات وطنيَّة تعمل على تجسيد روح الابتكار والإنتاجيَّة والنزاهة في السلوك الوظيفي، وتعزيز حضوره في معايير وشروط الاختيار للوظيفيَّة العامَّة، وآليَّات عملها وفق برامج إداريَّة وتنظيميَّة، واستراتيجيَّات تدريبيَّة، ومواقف تنفيذ، ونماذج محاكاة عمليَّة حيَّة، وشواهد معززة لنُموِّ الممارسة الابتكاريَّة الخلَّاقة في السلوك المهني للموظف؛ فإنَّ الإبقاء على مساحات الأمانة الوظيفيَّة المعززة بالخلق والالتزام والإنجاز، قائمة في سلوك الموظف بمستوى القوَّة والثِّقة والتَّمكين ـ على الرغم من تزايد التحدِّيات الوظيفيَّة والمؤثِّرات الضاغطة، ونُمو الظواهر الوظيفيَّة الممارسات الَّتي تتجافى مع استمراريَّة هذا النَّهج ـ، يضعنا أمام تحوُّل قادم ينبغي أن تعزِّزَه منظومة الجهاز الإداري للدَّولة وعَبْرَ قانون الوظيفة العامَّة، من خلال مأسسة الأمانة الوظيفيَّة في السلوك الوظيفي وتعظيم وجودها في فِقه الوظيفة العامَّة، ما يطرح على منظومة قياس الأداء الفردي والمؤسَّسي والخطَّة الوطنيَّة لتعزيز النزاهة، توجيه الأنظار إلى القِيَم الأخرى خارج الصندوق الوظيفي من غير المهام والاختصاصات والَّتي يمنح وجودها الموظف شعورًا بالأمانة والصِّدق والقوَّة المهنيَّة والحسِّ الوطني المسؤول واستدامة حُب العطاء لدَيْه، والخيوط التفاؤليَّة الَّتي تحفظ وجوده بالمؤسَّسة وترفع سقف إنجازاته فيها.
د.رجب بن علي العويسي