معظم المؤشرات تتجه إلى أن الأحداث الساخنة فى فلسطين وجوارها العربى – الإقليمى تتجه نحو التصعيد وليس التهدئة، بغض النظر عن حالة الركض الراهنة التى تشرف عليها الإدارة الأمريكية للرئيس الأمريكى جو بايدن وشركاء التفاوض من أجل التوصل إلى وقف للحرب فى غزة وتبادل للأسرى بين المقاومة الفلسطينية وكيان الاحتلال الإسرائيلى، فهو أضحى «ركضاً على حافة الهاوية» التى تتهدد المنطقة كلها فى ظل هوس رئيس حكومة كيان الاحتلال بضرورة احتواء «زلزال طوفان الأقصى» خاصة استعادة الردع الإسرائيلى الذى تداعى مع تساقط هيبة ومكانة كيان الاحتلال الإسرائيلى إقليمياً ودولياً وتعرضه داخلياً لأعتى أزماته المجتمعية التى يعبر عنها الصراع السياسى الداخلى العنيف بين الطبقة الحاكمة من عسكريين وسياسيين والأعداد الضخمة من النازحين الإسرائيليين إلى الخارج هرباً من جحيم بات متفاقماً يهدد بقاء كيان الاحتلال وينذر بسقوط الهيكل الذى يرونه قريباً رأى العين. التلاعب بالمفاوضات التى شهدتها كل من الدوحة والقاهرة عبر جولات متلاحقة من المحادثات والمفاوضات بمشاركة أمريكية فعالة من جانب بنيامين نيتانياهو لم تأت من فراغ بل هى مدفوعة، وبقوة، بشعور نيتانياهو بالعجز العميق عن حل المأزق التاريخى الاستراتيجى الذى يواجه الاحتلال والذى يمكن تلخيصه فى معادلة حاسمة لتوازن القوة والردع بين إسرائيل ومن يسميهم نيتانياهو «أعداء إسرائيل» ويقصد «محور المقاومة». هذه المعادلة تقول إن «إسرائيل باتت عاجزة عن تحقيق نصر وأنها من المستحيل أن تتحمل القبول بهزيمة». يدرك نيتانياهو أن أمامه مخارج كثيرة لكسر هذه المعادلة الصعبة والخروج من أتونها، للوصول إلى أهدافه الاستراتيجية التى أعلنها بصراحة وأمام أشد حلفائه فى خطابه أمام الكونجرس الأمريكى (الأربعاء 24/7/2024). فى هذا الخطاب الذى كان نيتانياهو شديد الحرص فيه على تأكيد أن إسرائيل «لا تريد تدمير قطاع غزة، ولكن تسعى لوجود عسكرى هناك حتى لا تشكل غزة أى تهديد عسكرى لنا». من أبرز المخارج التى يسعى نيتانياهو للهروب من المأزق التاريخى – الاستراتيجى الذى يواجه إسرائيل الآن والذى يحول دون تمكين نيتانياهو من تحقيق أهدافه ثلاثة مخارج رئيسية؛ أول هذه المخارج هو تسويف المفاوضات حول «صفقة بايدن» التى يجرى التفاوض عليها باهتمام أمريكى شديد تشارك فيه وزارة الخارجية الأمريكية وعلى رأسها وزيرها انتونى بلينكن، ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ورئيسها ويليام بيرنز، فى جولات مكوكية بالمنطقة والهدف هو إنجاح صفقة تبادل الأسرى ووقف القتال، ولو مؤقتاً، فى محاولة مستميتة من الإدارة الأمريكية لتحقيق انتصار يجرى توظيفه فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية فى ظل تصاعد أزمة داخل الحزب الديمقراطى قد تؤدى إلى انقسام يهدد فرص فوز كامالا هاريس التى أضحت هى مرشحة الحزب فى الانتخابات بعد انسحاب بايدن، حيث تتزايد أعداد المعارضين من داخل الحزب لسوء إدارة الأزمة فى غزة من جانب الإدارة الأمريكية وانحيازها المفرط لإسرائيل. بايدن وإدارته لا يريدان تسوية تحمى غزة بل تسوية تفيد المرشح الديمقراطى فى الانتخابات. نيتانياهو يدرك ذلك، ويدرك عمق دعم إدارة بايدن للحرب الإسرائيلية فى غزة وفى شمال كيان الاحتلال مع حزب الله تحت مزاعم «الدفاع عن النفس» لكنه يدرك أيضاً عمق «التهافت» الأمريكى على إنجاح هذه التسوية، التى لا يريدها، لكنه يدرك أيضاً أن ما يفصله عن الانتخابات الرئاسية الأمريكية لم يعد يزيد كثيراً على 70 يوماً فقط، ولديه تلميحات، بل ودعوات صريحة، من المرشح الجمهورى فى هذه الانتخابات دونالد ترامب برفضه «صفقة بايدن» وإفشال الانتخابات. لذلك فإن فشل تلك المفاوضات أضحى مؤكداً لأسباب تخص رفض نيتانياهو نفسه لها لتعارضها مع ما يخطط له فى غزة وهو «فرض الوجود العسكرى الإسرائيلى» على القطاع وليس الانسحاب منه وتصفية أى وجود عسكرى أو سياسى لحركة «حماس» فى غزة، ولأسباب تخص طموحات نيتانياهو مع صديقه وحليفه دونالد ترامب، ولأسباب تخص تماسك الحكومة الإسرائيلية فى ظل تهديد قادة اليمين التوراتى المتطرف فى التحالف الحكومى بالانسحاب منها فى حال قبول الصفقة خاصة الانسحاب من «ممر فيلادلفيا» على الحدود المصرية – الفلسطينية (قطاع غزة). طموحات نيتانياهو مع ترامب أضحت شديدة الإغراء فى ظل إعلان ترامب فى كلمته أمام الجالية اليهودية (17/8/2024). فقد انتقد ترامب بقوة دعوات الرئيس الأمريكى جو بايدن ونائبته كامالا هاريس المرشحة الديمقراطية فى الانتخابات الرئاسية التى استمرت شهوراً لوقف إطلاق النار فى غزة، لكن الأهم هو تساؤله عن «مساحة إسرائيل» وقوله «هل هناك طريقة لتوسعتها والحصول على المزيد من الأراضى». نيتانياهو يتذكر جيداً نقل ترامب للسفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس واعتبارها «عاصمة أبدية لإسرائيل»، واعترافه بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان السورية المحتلة منذ عام 1967. لذلك هو يأمل أن يأتى ترامب ليعلن اعترافه بـ «ضم قطاع غزة» إلى إسرائيل، أو الاعتراف بضم الضفة الغربية، وكلها طموحات تداعب خيال نيتانياهو ليتحول إلى «أعظم زعماء إسرائيل».
- المخرج الثانى هو الحرب الإقليمية الموسعة ضد إيران بمشاركة أمريكية ، لكنه أحبط من رفض جو بايدن وإدارته التورط فى مثل هذه الحرب لأسباب تخص المصالح القومية الأمريكية والخطط الإستراتيجية الأمريكية وأولوية الصراع الأمريكى مع روسيا والصين .
- المخرج الثالث هو الحرب ضد «حزب الله» فى شمال كيان الاحتلال . والهجوم الذى شنته الطائرات الإسرائيلية ضد جنوب لبنان فجر الأحد أمس الأول، تحسباً لهجوم انتقامى من حزب الله على اغتيال القائد العسكرى فؤاد شكر يعتبر مخرجاً مهماً لإفشال التفاوض حول «صفقة ترامب».ثلاثة مخارج تؤكد أن الصراع يتفاقم فى ظل مأزق إسرائيل التاريخى – الاستراتيجى والعجز عن تحقيق الأهداف ، لكنه صراع يضع المنطقة على حافة الهاوية وانفجار الحرب الإقليمية فى أى لحظة .
د. محمد السعيد إدريس