تتصاعد اليوم زعومٌ كثيرة، منمقةُ اللفظِ، مسمومةُ المعنى، خائبةُ النتيجة من خلال التجربة، ولكنّ أصحابَها لسببٍ أو آخر عمت قلوبُهم، فعمت جوارحهم وحواسهم، مصداقا لقوله سبحانه: (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)، وهذا لا يلزم بالمطلق التخوين، ولا التجريح، فهناك من أدّاه سبيلُه لهذا متأثرا بالمناخ العام الذي يحيط به في أروقة السياسة والإعلام والمجتمع، وليس في قلبه إلا كل صدق وحب للأمة، وهم أولاء من قد تنفعهم مثل هذه الذكرى، إلا أن هناك آخرين كثير، بلغ بهم مرض القلوب مبلغه في عبد الله بن أُبَيِّ ابن سَلُّول، فقد كان ذاك كما هم أولاء في جوازه وهويته (مسلما)، مسلمَ الظاهر، عدوَّ الباطن، أشر الأشرار على الإسلام ورسالته، وأقبح في عدائه من صرحاء الكفر والطغيان، من ثَمَّ ذكر القرآنُ الكريمُ الكفارَ الصُّرَاح في آيتين من سورة البقرة فقط (٦-٧)، بينما ذُكِرَ ابنُ سَلَّول وأضرابُه ستةَ أضعاف في ١٢ آية متتالية من السورة ذاتها (٨-٢٠)، وهو ما يُدَلِّلُ على عمق أثر هذا النوع من (المسلمين)، مقابلَ الكافر ِصريحِ الكفر، وهو ما نشهد نتيجته ونشاهده من نكبات في هذه الأمة في عصرنا ويومنا.
إن من هذه الدعوات زعمَ أن تسليم حزب الله اللبناني والمقاومة عموما أسلحتهم للدولة، وانخراطَهم تحت لوائها سينقل بالبلدان العربية تلك إلى السلام، فلولا المقاومةُ وحزبُ الله لكانت هذه الدولُ في نعيم وسلام وازدهار، لذلك يرى أولاء أن حركاتِ المقاومة إنما هي عَميلةٌ للغرب ليبقى العالمُ العربي متخلفا على الدوام، وهو تعبير وكلمة حق يراد به باطل، كما عَبَّر بها علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي عنه فيما روي عنه في التحكيم يوم فتنة صِفِّين.
إن القارئَ العاديَّ فضلا عن ذلكم الحصيفِ يرى كيف أن الدولةَ اللبنانية -كما باقي الدول العربية- مكبلةٌ ولا تستطيع بناء جيش حقيقي بتسليح متقدم مهما حاولت، بسبب القيود التي يفرضها النظام الصهيوني الغربي، لا سيما أمريكا، التي تمنع السلاحَ والطائراتِ المتطورةَ عن حلفائها ومقدمي فروض الطاعة والولاء لها من الدول العربية، ولو على حساب عروبتهم ودينهم وقيمهم، لكونهم عربا، وما صفقة الطائرات الحربية الأمريكية لإحدى دولنا العربية المخلصة للأمريكان حد النخاع، وموقف الكونجرس المعطل لها عنا ببعيد، فكيف هي بلبنان أو سوريا أو إيران أو غيرها ممن لا يُسَبِّحون بحمدها، ولا يدورون في فلكها!
من ثَمّ فحزبُ الله اللبناني خَيارٌ استراتيجيٌ للدولة اللبنانية، في ظل الهيمنة والغطرسة الأمريكية و الغربية والصهيونية العالمية، والقيامُ بتسليم الحزب سلاحه لمنظومة الجيش اللبناني بهذه البيئة العالمية الطاغية هو خيانة للبنان، وعملية انتحار علنية، وحكم على الدولة بالإعدام والموت والفناء والاحتلال، وهو ما لا ترجوه أي حكومة لبنانية واعية، ولا تدفع إليه.
ليس للبنانيين بهذا متنفسُ قوةٍ وردع إلا المقاومة وحزب الله اليوم، فهو ملاذها الأخير، ونافذتها الوحيدة للقوة والردع، فلو ذاب الحزب في الجيش لانتهى ردع لبنان وبات كما فلسطين المحتلة، وغزا الكيان ُلبنانَ مرارا وتكرارا، واحتل بيروت كما فعل ١٩٨٢، متى شاء وكيف شاء، ولابتلعها كما ابتلع أراضي ٦٧ العربية -الضائعة رغم التطبيع حتى اليوم- وتوسع ليقيم كيان أحلامه من النهر إلى البحر.
لقد ذهب البعض إلى جعل حزب الله نعلا في قدم الغرب وسببا في تخلف لبنان، فما موقفه وأمثاله وهو يرى نتيجة الحالة التي يدعو لها، من التطبيع والسلام مع الكيان المجرم بادية بأمثلة عملية عربية متكررة!
إن لهذا التوجه مثالين عمليين على الأقل في بلادنا العربية، مصر والأردن، فهل استفاد الشعب العربي فيهما شيئا، وهل تطور بشيء، إلا الفقر والحرمان والتخلف، وهل هناك حزب الله في أيٍّ منهما مسلحٌ ومنظم تسبب في تخلفهما تَخلُفَ لبنان المزعوم، ليس هناك إلا الدولةُ التي يدعو لها هذا التوجه (توجه التطبيع)، وإنما كانت نتيجة دعوته هذه أن أوجدَ هذا التطبيع احتلالا وغزوا من نوع آخر، يؤدي دور الغزو العسكري ويزيد عليه من حيث السيطرة، حيث أوجد نظامين، يتبجح الصهاينة وأبواقهم أنهما -وأنظمة عربية أخرى- عملاء لهم، ينتعلهم الكيان الصهيوني شباشب لتقيه من نار حارقة على قدميه، تكويه بها المقاومة وأحرار العالم لظلمه وجبروته، يأتمران بأمره وينطلقان من رأيه، وهم صهاينة أكثر من الصهاينة أنفسهم، كما يعبر الكيان وزبانيته، ولا يخجل هذا الكيان المجرم بالمجاهرة بذلك في حق هذه الأنظمة، وفضحها وأبواقها على العلن، دون أن يكون هناك منهما ما يكذب هذا من فعل وإجراء على الأرض ، ولا حتى بيان مقابل يحفظ لهما ماء الوجه ولو قليلا، مقابل هذا الهجوم الصهيوني القميء، حتى باتت عمليا المصالح العليا للدولتين وشعبيهما في مهب الريح مقابل من يزعم أنه سيدهما من الكيان المسخ وعصابته، فمن استجداء بعض الماء والغاز من أرضه العربية المحتلة، يتمنن بها عليه الاحتلال، مرورا إلى احتلال محور فلادلفيا ومعبر رفح وتدميره، وصولا إلى قتل بعض جنود دولنا على الحدود، دون أن يكون للدولة المصرية هيبة ولا مكانة، ولتسقط الكنانة ذليلة، يتحكم بها المحتل في نظام طاغ جبار ظالم، يفاخر بهذه السيطرة وهذا التحكم، فمهما احترقت مصر عنده ومهما احترقت مكانتها وسقطت هيبتها وتمردغ أنف جيش “خير أجناد الأرض” بالتراب، فلن يكون ذلك شيئا مقابل حماية الكيان المحتل وبلع غطرسته.
هذه هي نتيجة دعوة ذوبان حزب الله والمقاومة في الدولة وتسليم أسلحتها، مُنيةَ الكيان وخدامه، حتى يلعب بها كما يلعب بالدول المطبعة…
حزب الله ليس فقط يحمي نفسه وحاضنته، بل يحمي الدولة اللبنانية بجيشها ونظامها السياسي، يحمي العالم العربي المكبل من قبل نظام عالمي منافق في كل ما زعم وكذب به على العالم من حقوق وعدالة وديمقراطية ومؤسسات عطلت في أبسط اختبار، وشاء الله أن يفضح نفاقها ودجلها على الهواء مباشرة، بوجود حرب موازية بين روسيا وأوكرانيا، وكيف يتعامل معها هذا النظام المنافق ومع إبادة غزة… كيف أن المؤسسات الدولية فاعلة وبصورة مضاعفة مع الحرب الروسية الاوكرانية ومعطلة كل التعطيل مع الابادة في فلسطين وغزة…
لقد تكشفت هذه الحقائق أمام الإنسان الحُرِّ من العالمين، فانتفض مسلما وغير مسلم، عربيا وأعجميا، موظفا وطالبا، صغيرا وكبيرا، امرأة ورجلا في وجه هذا النفاق والدجل والظلم، وما زال، إلا التائهين في الأرض، المغيبين في دهاليز الغرب الماكر، مصاصِ الدماء، وقاتل الأطفال، فما زال أولاء يرقصون على قيثارته وأنغام أغنيته السامة في معاداة كل ما يقاوم هذه الأفعى الماكرة المحتلة لأرضهم فلسطين، وفي معاداة السامية ذاتها التي يباد أهلها العرب في غزة، من قبل كيان لقيط مريض شرير..
هذا فضلا أن الحال اليوم وما نراه هو تكشُّفٌ لآيات الله العزيز في كتابه الكريم على أرض الواقع، وترجمةٌ حقيقية لعقيدة أصحاب “الدينار” من اليهود خاصة الذين ذكرهم سبحانه (آية ٧٥ آل عمران)، وكيف يجب التعامل لنجدة البشرية من ظلم عقائدهم الضالة المجرمة بحق الخلق.. وكيف أن في تشتتهم وعدم قيام كيان لهم مستقل سلامةً لهم وللعالم أجمع ومصلحةً عليا للمجتمع الإنساني والبشرية جمعا..
ألم يكن للعقيدة حضور ومكان في تجلي الصورة والحكم عليها، ألم يكشف طوفان الأقصى عن وجه هذا النظام العالمي الفاجر وقبحه، ألم يخبر المترددين والمتعلمنين أن علمانيتهم وفكرهم مضروب، وهو خطر عليهم وعلى أوطانهم، ألم تحرك الإنسانية شيئا من قلوبهم ليراجعوا موقفهم وموضع قدمهم، ألم يكن في انتفاض الضمير الإنساني مسلمين وغيرهم، عربا وعجما، وازعٌ يدعو أولاء للصحوة الكبرى من غفلتهم ونومهم، والخروج من غياهب جُبِّهم، ألم يكن من نذير في ذلّ الدول المطبعة وبيعها لشعوبها ومصالح دولهم العليا، والفقر والرجعية والشتات والجريمة التي باتت حالا أصيلا وطبيعيا في حياة هذه الدول وشعوبها اليومية، ونتيجةً حتمية للتطبيع مع خائن العهود، وناقض العقود، ومحتقر الشعوب، وها هي مواثيق كامب ديفيد وأوسلوا ووادي عربة، تثبت مخرجاتها المتخلفة على خيبتها، وتعاستها، وسوء الواقع فيها، فقرارات أنظمتها جلها ضد الدولة وضد مصالحها الإقليمية، وضد قيمها، في فلسطين المحتلة، وفي دول الطوق حولها، مضطلعا فيما يظهر بمهمة رئيسة كبرى وهي ضمان تفوق العدو الصهيوني وهيمنته في المنطقة…كما شاءتها قوى الشر العالمية!
ألم يكن لهذه جميعها وغيرها من أحداث فائدة في إنعاش أولاء المضللين التائهين الراقصين على نغمة أفعى الصهاينة الكبرى الرقطاء وما تبثه من سموم، وعلى انتشالهم من جب ما ألقاهم فيه النظام العالمي وإعلامه المسموم، لا عقيدة ولا إنسانية ولا مبادئ أمة ولا غيرة من انتفاض غير المسلم وغير العربي لفلسطين وتفاعله ضد نظام الغرب المجرم… عجيب والله!
كل الجرم وكل الدماء والحروب والدمار ليس فقط في المنطقة العربية بل وفي العالم أجمع مصدره محور الشر والشياطين (أمريكا والغرب)، ثم يحولون بوصلتهم وعدائهم لإيران، تعصبا وحمية جاهلية لا دليل لها على الأرض يعززها، إلا المرض، فخلعوا عقيدتهم وأن الإسلام والجغرافيا والجيرة والتاريخ هو موئلهم ومَجْمعُ بينهم، وارتموا في محور الشر وما يبث من سموم وظنون ومزاعم، واعتنقوها ضد ربهم وضد قرآنهم وضد إسلامهم وضد عروبتهم وضد مصالح دولهم ومنطقتهم وضد جيرانهم… حتى باتوا مجرمين أنفسهم مثل الغرب تماما، خبثاء ماكرين، يظهرون في صورة البراءة في النهار والإعلام، ويحملون السم الزعاف في الليل، يحقنون به جسد هذه الأمة الشريفة، فافتعلوا الحروب وتدخلوا بالشر في شؤون الدول الشقيقة، وقتلوا ودمروا وأفسدوا، وهم ما زالوا يفعلون، ويظنون رغم شرهم وإفسادهم أنهم هم المصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون..
عبد الحميد بن حميد بن عبدالله الجامعي
الأربعاء
٢٣ صفر ١٤٤٦ هـ
٢٨ اغسطس ٢٠٢٤ م