يُمثِّل دوام أعضاء الهيئات التَّعليميَّة والإداريَّة بمدارس سلطنة عُمان مرحلة مُتجدِّدة في مَسيرة التَّعليم، وبدء عام دراسي جديد يحمل الكثير من الآمال والطموحات الوطنيَّة للتَّعليم عامَّة من خلال قدرته على تحقيق أولويَّات رؤية «عُمان 2040» والطُّموحات الوطنيَّة ذات الصِّلة بصناعة الفرص وإنتاج الوظائف وترسيخ الهُوِيَّة وتعزيز الانتماء وبناء القدرات وإنتاج القدوات، أو في ما يُمكِن أن يقدِّمَه للطَّلبة من فرص الاحتواء الفكري والارتواء النَّفْسي والتَّهيئة النَّفْسيَّة والصحيَّة والفكريَّة الَّتي تُحدِّد بوصلة العمل في هذا العام الدراسي وتُبرز مقتضيات العمل بالمدارس، والَّتي على أساسها تُبنى القناعات وتؤطَّر التوَجُّهات وتُرسَم النَّماذج السَّاعيَّة لتحقيقِ إنتاجيَّة نوعيَّة في عمل المدارس.
وبالتَّالي، بقدر ما يمنح البُعد النَّفْسي حضوره في تعلُّم الطَّلبة وبيئة تعلُّمهم، يُصنع التحوُّل وتقدُّم الابتكاريَّة وتتجلَّى الحيويَّة والتَّجديد في كُلِّ محطَّاتها، ومع تعاظُم الطُّموحات وتزايد الرَّغبات نَحْوَ نموذج تعليمي وطني يحمل التَّغيير في أبعاده الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة ويوفِّر حلولًا وبدائل مجرَّبة لتكوينِ صورة مُشرِقة للتَّعليم في حياة الطَّلبة في مواجهة التكراريَّة وإسقاطات الصورة السّلبيَّة الَّتي تُعَبِّر عَنْها الأعداد المتزايدة من الباحثين عن عمل والمُسرَّحين من القِطاع الخاصِّ، وغياب مساحة المواءمة بَيْنَ مناهج التَّعليم والواقع والمخرجات وسُوق العمل والَّذي يُلقي بضلاله على المُكوِّن النَّفْسي والفِكري للطَّلبة في قدرتهم على تحقيقِ تعلُّم عالي الجودة، على أنَّ طبيعة المرحلة وتحدِّياتها وظروفها تلقي على كاهل التَّعليم مسؤوليَّة البحث في العُمق النَّفْسي والفِكري والمهاري للطالب، والَّتي يُمكِن أن تستنطقَ من قانون التَّعليم المدرسي بالمرسوم السُّلطاني (31/2023)، الصُّورة النَّوعيَّة الَّتي تتلاءم مع الواقع الجديد والمتغيِّرات والمستجدَّات الَّتي تفرض ذاتها على ميدان التَّعليم، حيث جاء في المادَّة (45) «تعمل الوزارة على توفير الخدمات اللازمة لتعزيزِ الصحَّة النَّفْسيَّة والبَدَنيَّة والاجتماعيَّة وخدمات التَّوجيه والإرشاد المهني للطَّلبة» الأمْرُ الَّذي يُمثِّل استحقاقًا وجوبيًّا في أن تتعاملَ المدارس مع هذا البُعد النَّفْسي كخيار استراتيجي أصيل وسلوك تعليمي يرتبط بخطِّ سَير العام الدراسي وتجلِّياته في حياة الطَّالب لا يَقبلُ المزاجيَّة ولا ينتظر الموافقات الرسميَّة، ما يدعو إلى أن تمتلكَ المدارس مع بدء العام الدراسي من الممكنات والموَجِّهات المدروسة والمُجرَّبة الَّتي تضْمَن قدرتها على تكييف الطَّلبة للمعطيات التَّعليميَّة، والظروف الَّتي تعمل فيها المدارس.
عَلَيْه، يُصبح تعزيز الأبعاد النَّفْسيَّة والفكريَّة والتَّهيئة القَبْليَّة للطَّالب في بيئة المدرسة وخلْق مناخات نَفْسيَّة وأجواء تربويَّة تعليميَّة قادرة على أن تنقلَ الطَّالب إلى مرحلة القوَّة والمهنيَّة والاحترافيَّة والجدِّيَّة في تعليمه، كما تؤطِّر ممارسات الهيئات التَّعليميَّة والإداريَّة برامج عمل مُجرَّبة تستنهضُ في سلوك الطَّلبة العزيمة والإرادة والرَّغبة في تحقُّق تعليمٍ نشِط، ومعنى ذلك أن تضْمنَ البداية الأولى للطَّلبة في بيئة المدارس ومقاعد الدِّراسة، وضوح الخطط والبرامج، والمبادرات، وآليَّات العمل الَّتي تعتمدها في تهيئة الطَّلبة للعام الدراسي الجديد ورفع درجة الإيجابيَّة والتَّفاؤل والحوار معهم لضمان الاستقرار النَّفْسي لَهُم الَّذي سينعكس على مسار تعلُّمهم القادم، سواء في مسار استقبال الطَّلبة، أو في توزيعهم على الصُّفوف الدراسيَّة أو في تصحيح خيارات الطَّلبة، والتَّعاطي مع البروتوكول الصحِّي بالشَّكل الَّذي يعمل على تقديم خدمات صحيَّة مناسِبة للطَّلبة بعد فترة غياب عَنْها، ولمزيدٍ من الحرص على سلامتهم وأمانهم، وعندها يصبح الاحتواء النَّفْسي للطَّلبة وفقَ بيئة تربويَّة تعليميَّة جاذبة وصناعة للتَّغيير، أولويَّة تعليميَّة تسبق عمليَّات التَّدريس الأخرى، ويتَّجه فيها عمل الهيئات التَّعليميَّة والإداريَّة إلى إتقان مهارة الإعداد النَّفْسي وتعظيم شأنه في عمليَّات التَّوجيه والضَّبط والتوعيَّة والتَّثقيف وإدارة السلوك التَّعليمي بالشَّكل الَّذي ينعكس على استيعاب الطَّلبة للحالة التَّعليميَّة واستراتيجيَّات التَّدريس وطرائقه، ما يؤكِّد في الوقت نَفْسه أهميَّة الأبعاد النَّفْسيَّة والصحيَّة والفكريَّة ومستوى حضورها في بيئات التَّعليم والتعلُّم، وأساليب العمل والتَّعامل ومنهجيَّات الأداء والقرار التَّعليمي، وأساليب التَّرغيب والتَّرهيب، ويدرك المُعلِّم والإداري وغيرهم من القائمين على تعلُّم الطَّلبة للخططِ والاستراتيجيَّات والأُطر الَّتي تضْمَن كفاءة اعتماد المُكوِّن النَّفْسي والصحِّي كمدخلٍ استراتيجي لبدء عام دراسي أكثر أمانًا والتزامًا وتحقيقًا لمتطلَّبات العَودة الآمِنة.
من هُنَا إلى أيِّ مدى يُمكِن أن يُشكِّلَ دوام أعضاء الهيئة التَّعليميَّة محطَّة لالتقاط الأنفاس، وكيف يُمكِن أن تكُونَ العَودة للمدارس فرصة لتغييرِ القناعات والأفكار الأحاديَّة والهواجس السّلبيَّة في قدرة الطَّلبة على التكيُّف مع الواقع الجديد، والتشوُّهات الفكريَّة قد تؤثِّر سلبًا على قناعاته حَوْلَ التَّعليم والإجراءات المُتَّخذة أو في تعاطيه مع الصَّدمات والمخاطر الَّتي قد يواجهها وجاهزيَّة المدارس في ظلِّ الصلاحيَّات والممكنات الممنوحة لها بقانون التَّعليم المدرسي على بناء نمطٍ تعليمي متكامل يرفع من سقفِ طموحات الطَّلبة ويقدِّم الحلول والأدوات والسِّيناريوهات والبدائل والفرص الَّتي ترفع من التَّعبئة النَّفْسيَّة للطَّالب، وتقدِّم لَهُم برامج إرشاديَّة وتوجيهيَّة وتثقيفيَّة وتعليميَّة تضْمَن تقليل كُلِّ مُسبِّبات الخطر النَّفْسي والهدر التَّعليمي، وتحافظ على أمْنهم وسلامتهم من أيِّ حوادث وظروف صحيَّة قادمة، وفي الوقت نَفْسه تقوِّي مناعتهم الذَّاتيَّة في استيعابهم للواقع، وتكيُّفهم مع ظُروفه وتعاملهم مع مستجداته، وتعاطيهم مع قراراته بكل ثقة وتفاؤليَّة، ويصبح نضج هذه الممكنات وطريقة استخدامها، وتشارك الجميع في صياغتها ورسم معالمها في حياة الطَّلبة.
إنَّ قدرة المدارس على تحقيق الجاهزيَّة النَّفْسيَّة مرتبطٌ بما يتمُّ إدخاله على الممارسة التَّعليميَّة من تطوير وتحسين مستمرٍّ في أدوات تشخيص السُّلوك النَّفْسي وتوفير مقاييس للرَّصد والتَّحليل وقراءة الشخصيَّة وتقليل أثَر الاضطرابات النَّفْسيَّة وارتفاع معدَّلات القلقِ النَّاتجة عن الخِطاب التَّعليمي أو الأساليب المستخدَمة أو الممكنات المهاريَّة والقياديَّة والنَّفْسيَّة والتَّعليميَّة الَّتي يمتلكها أعضاء الهيئة التَّعليميَّة من المُعلِّمين في التَّدريس والتَّثقيف والتَّدريب وقيادة التَّعليم في غرفة الصَّف والقاعات الدراسيَّة، بحيث يصبح للبُعدِ النَّفْسي موقعُه وحضورُه في حزمة الإجراءات والمسارات المنهجيَّة وطرائق التَّدريس وفلسفة تعلُّم الطَّلبة، وأن لا يُفهمَ منِ احتواءِ الطَّلبة نَفْسيًّا هو وقوعهم في اضطرابات نَفْسيَّة والحاجة لتوافر الاختصاصيِّين النَّفْسيِّين والمُعالِجين في هذا الأمْرِ، وإنَّما إلي أيِّ مدى يشعُر الطَّالب وهو يدخل بيئة المدرسة، أنَّ البيئة المادِّيَّة والبَشَريَّة وأعضاء الهيئة التَّعليميَّة بمختلف مُسمَّياتهم الوظيفيَّة يمتلكون لُغة خطابيَّة ومشاعر راقية تستوعب احتياجات الطاَّلب النَّفْسيَّة المتغيِّرة، وتحرص على أن ينالَ كُلُّ طالب نصيبه من الاهتمام والرِّعاية والمتابعة، الأمْرُ الَّذي من شأنه أن يقوِّيَ من روح الإرادة والتحمُّل والتقبُّل للواقع بما ينعكس إيجابًا على بدء العام الدراسي الجديد وإزالة كافَّة الأوهام والتكهُّنات السّلبيَّة الَّتي يتلقَّاها من أقرانه وأصدقائه وأُسرته بِدُونِ إدراكٍ لعواقبها وضررها، وبما يُسهم في خفض درجة القلق النَّفْسي لدَيْه.
أخيرًا، ومع ثقتنا بأنَّ الحماس النَّوْعي الَّذي تُبديه المدارس في استقبال الطَّلبة وتنظيم الحافلات وضبطِ الروافد المدرسيَّة، وتهيئة الصفوف الدراسيَّة والمرافق التَّعليميَّة الأخرى للطَّلبة، فإنَّ جودة تحقُّق ذلك في الواقع مرهونٌ بالاستدامة في الكفاءة الأدائيَّة، ووضوح أدوات العمل وأدوار المُعلِّمين وإدارة المدرسة، ووليِّ الأمْرِ، والمُتابِعِين للأداء المدرسي من ديوان عام وزارة التَّربية والتَّعليم والمديريَّات التَّعليميَّة بالمحافظات، في إطار من التَّكامليَّة ورفع درجة التَّنسيق بَيْنَها، وتمكين المدارس من صناعة الفرص وإنتاج التَّغيير في بناء سيناريوهات الجاهزيَّة النَّفْسيَّة، ووفقَ برنامج يومي متكامل يقدِّم جرعات توعويَّة وتثقيفيَّة نشطة، ما يُسهم في صناعة التَّوازنات النَّفْسيَّة والصحيَّة والفكريَّة في حياة الطَّالب منذُ بدايَّة العام الدراسي وترسيخ أصولها وقواعدها في الممارسة التَّعليميَّة وعَبْرَ لُغة خطابيَّة تربويَّة تعليميَّة تفاعليَّة متوازنة قائمة على الحوار والتَّواصل، والتَّرغيب وصناعة الالتزام الذَّاتي، وتوفير الفرص وعادات التَّغيير الصحيَّة والصحَّة النَّفْسيَّة الَّتي تُعزِّز في الطَّالب حيويَّة التَّجديد والنَّشاط والمشاركة، وإسهام الطَّلبة في صناعة مستقبلهم التَّعليمي، والارتقاء بمدارسهم وقدرتها على المنافسة وتعظيم القِيمة التنافسيَّة لها في ميادين العطاء والإنتاجيَّة بما يصنع لها حضورًا مهيبًا في إنتاج مُجتمع يتقدم بثقة ويَبني مسؤوليَّاته بروح وثَّابة وشغفٍ، محطَّات لعَودة آمِنة لمقاعد الدِّراسة، وعام جديد واعد مُشرِق، سِمته التَّفاؤل والأمان النَّفْسي والسَّلام الدَّاخلي، وعنوانه الجودة والإتقان والإنتاجيَّة.
د.رجب بن علي العويسي