يطرح واقع ملفِّ الباحثين عن عمل والمُسرَّحِين من القِطاع الخاصِّ في سلطنة عُمان أهميَّة اعتماد إطار عمل وطني واضح المعالم، مُحدَّد الأهداف، قابلٍ للتَّطبيق، يُراعي الخصوصيَّة العُمانيَّة، ويَتفاعلُ مع الحالة الوطنيَّة، ويُحافظ على درجة الانتماء والولاء والإنتاجيَّة للمواطن، كما يحافظ على سقف الفرص والتوقُّعات لدَيْه والثِّقة في قدراته، بعيدًا عن القرارات الارتجاليَّة والحلول التَّرقيعيَّة غير المدروسة أو المبادرات غير المضبوطة أو المُقنَّنة، أو تَبنِّي أفكار غير متناغمة مع الحالة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة حتَّى وإن كانت تُمثِّل توَجُّهًا عالَميًّا أو تجسِّد أحَد المفاهيم الحديثة في إدارة الموارد البَشَريَّة والتَّعامل مع ملفِّ الباحثين عن عمل، انطلاقًا من خصوصيَّة الحالة العُمانيَّة وارتباط أمْرِ التَّشغيل والتَّوظيف بمرتكزات وثوابت وحقوق وطنيَّة أقرَّها النِّظام الأساسي للدَّولة والقوانين ذات الصِّلة لا يُمكِن التَّنازل عَنْها.
ولقَدْ طرحت وزارة العمل في فترات سابقة جملةً من التوَجُّهات والبرامج في سبيل الحدِّ من ارتفاع أعداد الباحثين عن عمل أو إغلاق باب التَّسريح، غير أنَّها ظلَّت حالة وقتيَّة استوعبت حينها أعدادًا من الباحثين عن عمل، إلَّا أنَّها أنتجَتْ تحدِّيات أكبر لم تستطع المحافظة عَلَيْهم أو إقناع القِطاع الخاصِّ بضرورة الإبقاء على الكفاءة الوطنيَّة. إنَّ مردَّ هذا الأمْرِ غياب سُوق عمل حقيقي يمتلك مُقوِّمات البناء وأجندة التَّطوير، أو بمعنى آخر يمتلك أدوات الإنتاج، ويقوم على قاعدة اقتصاديَّة وصناعيَّة واضحة، أو لدَيْه احترافيَّة في إدارة الصِّناعة التَّحويليَّة الَّتي يستطيع من خلالها أن يصنعَ حراكًا لسُوق العمل واستدامة الوظائف، في ظلِّ غياب حقيقي للقِطاع الخاصِّ الَّذي يعتمد في أنشطته على المشاريع والخدمات الحكوميَّة، والَّتي ترتبط في الغالب بعقودٍ مؤقَّتة تنتهي بانتهاء مدَّةِ المشروع، الأمْرُ الَّذي يضعُ القوى العاملة الوطنيَّة العاملة في منشآت القِطاع الخاصِّ هذه أمام واقع التَّسريح القسري.
لذلك نعتقد بأنَّ الخيار الأمثل في التَّعامل مع مسألة الباحثين عن عمل والمُسرَّحِين بعد كُلِّ التَّجارب والمبادرات والجهود الَّتي تمَّتْ في هذا الشَّأن، يتَّجه إلى الإحلال الحقيقي المستدام للقوى العاملة الوطنيَّة محلَّ القوى العاملة الوافدة؛ باعتباره خيار القوَّة في معالجة جادَّة لملفِّ الباحثين عن عمل والمُسرَّحِين من القِطاع الخاصِّ، فإنَّ ما يَظهر من سيطرة القوَّة العاملة الوافدة على سُوق العمل واستحواذها على الأنشطة الاقتصاديَّة والإنتاجيَّة الرَّئيسة والوظائف الهندسيَّة والفنيَّة والإداريَّة العُليا، بنسبة قد تصل إلى (95%)، وارتفاع أعدادها لِتصلَ إلى (1.530) مليون عامل وافد، ويبلغ عددها في القِطاع الخاصِّ (1.229) مليون عامل، و(33) ألفَ عاملٍ وافد في القِطاع الحكومي، إضافة إلى (267) ألفَ عاملٍ وافد في القِطاع العائلي، وتركُّزها في المِهَن الهندسيَّة الأساسيَّة، والمِهَن المساعدة لِيصلَ (627) ألفَ عاملٍ، إضافةً إلى مِهَن الخدمات حيث وصلَ العددُ إلى (463) ألفَ عاملٍ، ومِهَن العمليَّات الصِّناعيَّة والكيميائيَّة والصِّناعات الغذائيَّة بــ(103) آلاف عامل وافد، ناهيك عن المِهَن التَّعليميَّة في مؤسَّسات التَّعليم العالي والمدرسي الحكوميَّة الَّتي ما زالت تشهد اليوم ارتفاعًا كبيرًا في أعداد المُعلِّمين والأكاديميِّين الوافدين، ناهيك عن سيطرة الأيدي العاملة الوافدة العربيَّة على المدارس الخاصَّة في ظلِّ تزايد أعداد مخرجات التَّخصُّصات الجامعيَّة من العُمانيِّين الباحثين عن عمل؛ يطرح اليوم الحاجة إلى قراءة جادَّة لمسارِ الإحلال في المِهَن التجاريَّة والاقتصاديَّة والهندسيَّة والإداريَّة العُليا، بالإضافة إلى المِهَن التَّعليميَّة في المدارس والجامعات ومراكز التَّدريب والاستشارات التَّربويَّة، واحتياجات المستشفيات من الأطبَّاء ومخرجات العلوم الصحيَّة والتَّمريض العُمانيِّين.
وعَلَيْه، يُمكِن قراءة مسار الإحلال المستدام في إطار ركيزتَيْنِ رئيستَيْنِ، الأولى، بناء سُوق عمل منتِج يمتلك القوَّة والكفاءة والفاعليَّة، ويستثمر في المورد البَشَري العُماني والَّذي يُمكِن من خلاله توفير وظائف مستدامة، ورفع كفاءة سُوق العمل عَبْرَ توطين الصِّناعات، وتعظيم دَوْر الصِّناعات التَّحويليَّة الَّتي تُسهم في تحريك وتنشيط حركة الاقتصاد بما توفِّره من أنشطة وبدائل وخيارات اقتصاديَّة أوسع، بحيث يقوم الشَّباب العُماني على إدارتها وتشغيلها وتنظيم سلاسل الإنتاج فيها، وبالشَّكل الَّذي يؤدِّي إلى استيعاب أعدادٍ كبيرة من الباحثين عن عمل، وتوظيف الخبرات وأصحاب التَّجارب من المُسرَّحِين من أعمالهم؛ ذلك أنَّ قدرة هذه المشاريع على صناعة التَّحوُّل نابعةٌ من قدرتها على توفير فرص وظيفيَّة أوسع وخيارات وبدائل أكثر نضجًا، وأن تتَّجِهَ الجهود نَحْوَ البحثِ عن قِطاعات إنتاج أكثر استدامةً وابتكاريَّة في استيعاب القوى العاملة الوطنيَّة، والاستفادة من جهود الاستثمار الأجنبي في صناعة التَّحوُّل القادم الَّذي يُعِيد تقييم المسار وتصحيح نتائجه، خصوصًا في ظلِّ الفرص الَّتي حقَّقها الاستثمار الأجنبي النَّاتج عن انتشار المُدُن الاقتصاديَّة للأيدي العاملة الوافدة.
أمَّا الرَّكيزة الثَّانية فتقوم على: إعادة تقييم مسار الاستثمار الأجنبي ومدى قدرته على تحقيق التَّحوُّل وصناعة الفارق، والَّذي باتَ في حقيقة الأْمرِ لا يُحقِّق الأهداف التَّنمويَّة الحقيقيَّة، ولا يستوعب القوى العاملة الوطنيَّة خصوصًا في ظلِّ اتِّجاهه إلى المشروعات العقاريَّة ومُدُن المستقبل وشبكات الطُّرق، والَّذي لا تستوعب فيه هذه المشروعات أعدادًا كبيرة من العاملين العُمانيِّين، بالإضافة إلى غياب الرُّؤية الواضحة لِمَا يُمكِن أن يُسهمَ به الاستثمار الأجنبي، إذ المسألة ما زالت تقرأ في إطار التَّرويج لسلطنة عُمان والتَّعريف بالفرص الواعدة أكثر من تقديم منتَج نَوْعي أو سلعة تحمل اسم سلطنة عُمان، وهدفه استقطاب الشَّركات الأجنبيَّة الكبيرة أو غيرها، وهذا بِدَوْره سوف يُعزِّز من فرص الاستثمار ونجاحه، كما يُقدِّم فرص أمانٍ أكبر للمستثمِرِين لِتكُونَ سلطنة عُمان بيئة أعمال واعدة، إلَّا أنَّ الحلقة المفقودة في منظومة الاستثمار الأجنبي تكمن في غياب التَّأسيس العملي لِمَا بعد مرحلة الاستثمار، فالاستثمار الأجنبي مرتبطٌ بتغيُّر الظُّروف والأحوال، وهو حالة وقتيَّة تعتمد على المزاجيَّة وتقلُّبات السُّوق، لذلك لا يُمكِن الاعتماد عَلَيْه في بناء مُجتمع اقتصادي مواطن منتِج قادر على إدارة موارده أو أن يصنعَ نَفْسَه بِنَفْسِه، أو أن يُعزِّزَ من كفاءة مواطنيه وموارده الوطنيَّة؛ نظرًا لِمَا يفرضه الاستثمار الأجنبي من امتيازات على الحكومات أن تفيَ بها في سبيل استقطاب هذه الشَّركات، ناهيك عمَّا يُمكِن أن تضخَّه الدَّولة من موارد للبنية الأساسيَّة، والأمْرُ فيه من التَّعقيد والاستلطاف ما لا يُمكِن تخيُّله في ظلِّ ثورة الشَّركات مُتعدِّدة الجنسيَّات والشَّركات العابرة للقارَّات الَّتي تفرض شروطها دُونَ اعترافها بِنِسَبِ التَّعمين الوطنيَّة لِتَوظيفِ العُمانيِّين، وهو الأمْرُ الَّذي يبدو لي أنَّه أحَد التحدِّيات الَّتي باتَتْ ترتبط بالاستثمار الأجنبي. فرغم ارتفاع حجمِ الاستثمار في المنطقة الاقتصاديَّة الخاصَّة بالدُّقم، والمناطق الاقتصاديَّة الحُرَّة والمناطق الصِّناعيَّة بالمحافظات، إلَّا أنَّ عوائده قليلة؛ نظرًا لغياب مفهوم التَّوطين فيه، لذلك نعتقد بأنَّ توفير الوظائف المستدامة وتعزيز كفاءة القِطاع الخاصِّ وتنظيم سُوق العمل يرتبط بامتلاك أدوات الإنتاج الَّذي يؤكِّد على أهميَّة الانتقال بالاستثمار إلى بناء المصانع وإعادة إنتاج وتوطين الصِّناعات التَّحويليَّة الَّتي تُشكِّل اليوم أحَد أهمِّ أعمدة الصِّناعة، بَيْنَما ما زالتِ الاستفادة مِنْه في سلطنة عُمان ضعيفةً جدًّا، وما زالتِ الموادُّ الخام كالحديد والبلاستيك والأخشاب والورق والأقمشة وغيرها كثير تذهبُ إلى دوَل الجوار لإعادة تدويرها ثمَّ نستوردها بأغلى الأثمان.
أخيرًا.. فإنَّ مسألة الإحلال الواقعي المستدام الَّتي نؤكِّد عَلَيْها يجِبُ أن تعالجَ في إطارها الصَّحيح وتُراعي العُرف الاجتماعي والثَّقافة المُجتمعيَّة، كما تتناغم مع الهُوِيَّة والخصوصيَّة العُمانيَّة، بحيث يتَّجهُ الإحلال إلى توطين الصِّناعة وتعظيم وجود مشاريع اقتصاديَّة ومصانع كبيرة استثماريَّة وتشاركيَّة من قِبل الدَّولة ورجال الأعمال، يقوم عَلَيْها الشَّباب العُماني في كُلِّ خطوط الإنتاج بما يتناسب مع اختصاصات المخرجات الوطنيَّة، ويراعي مؤهلاتها وخبراتها، لا أن يكُونَ الإحلال فرض واقع جديد على الشَّباب العُماني قَبوله على علَّاته حتَّى وإن كان إجحافًا في استحقاقاته العلميَّة والخبراتيَّة والوطنيَّة، إذ من غير المقبول أن يعملَ خريج جامعي في الإدارة الماليَّة والمحاسبة مكانَ وافدٍ في بقالة للموادِّ الغذائيَّة مثلًا، ولكن من المقبول أن يكُونَ محاسبًا بامتيازات مُغرية في مصنعٍ كبير وشركة اقتصاديَّة منتِجة.
د.رجب بن علي العويسي