هذه سكة “غوير” بذات التموضع على أحداثيات الحاضر النزوي لكن زعفران الأرض استردَّ خطوات الماشين إلى حلقة الدرس في مسجد “الأحْوَصْ”.
وهذه الجدر المالحة على حالها كما تعكَّز عليها الأمس ليفْصَحَ العطرُ العالقُ في الظل عن مواكب من مرُّوا من العلماء الأخيار والطلبة الأطهار وهم يسابقون أنفسهم نحو حلقة الدرس بمسجد “الفرض”أو “الأحوص” الذي تم تصحيح اتجاه محرابه بأمر من الرضي الخليلي بعد الانحراف الذي كشفه الحدس ، ونبَّهتْ إليه الأرواح التي تهفو نحو الكعبة المشرفة فلا تخطئها ، وأكدت عليه “الدَّيرْة” المحددة للأحداثيات ، لكن المتعلمين طووا “بخشات” الكتب والدفاتر وبدأوا “العطلة المدرسية” الطويلة.
أصعد الرفصات التي غسلتها الأقدام المتوضئة من “وقبة” فلج “ضوت” المار بالمسجد إلى الصرح فأدخل من أحد بابيه لتحتويني السنطوانتان والجدر الأربعة فأستنطقها عن ظهور نفضتْ تعبها عليها وهي ترتفع لأخذ أنفاس عميقة إثر الانكباب الطويل على الحروف الصغيرة للمصاحف التي كانت هنا ، وعلى سطور المخطوطات التي أوقفها الخيِّرون لطلبة العلم.
تقول الحوْليَّات النزوية أن مسجد “الفرض” القادم من القرن الخامس الهجري هو أحد مقار الكليات المتفرعة من جامعة الإمام الرضي محمد بن عبدالله الخليلي ، والتي تتخذ من كل مسجد من مساجد نزوى المعروفة “كليَّةً” موصولة بجامعة الإمام.
وعلى رأس كل حلقة درس بهذه المساجد هناك قامة علمية تتبحر في علم من العلوم الدينية واللغوية والأدبية.
وقد اختص الشيخ العلامة سالم بن سيف البوسعيدي بحلقة الدرس بكلية مسجد الفرض.
بينما ترأس الشيخ العلامة عبدالله بن عامر العزري كلية أخرى بمسجد “إد” أو مسجد “مود”.
وجلس الشيخ العلامة سعود بن أحمد الاسحاقي على رأس حلقة بمسجد الشواذنة ثاني أقدم المساجد في عمان بعد مسجد مازن بسمائل.
واختص الشيخ العلامة منصور بن ناصر الفارسي برئاسة كلية رابعة بمسجد بشر بن المنذر المعروف بمسجد الشيخ
وتحول جامع عقر نزوى إلى مجمع لعدد من الكليات أو حلقات الدرس ، فترأس إحداها الشيخ العلامة عبدالله بن عامر العزري الذي يجمع بين التدريس بجامع العقر ومسجد “مود”. وهي الكلية السادسة
وجلس على رأس الكلية السابعة بمسجد العقر العلامة النحوي الشيخ حامد بن راشد الشكيلي.
وتحلق الطلبة في الكلية الثامنة حول الشيخ العلامة حمود بن زاهر الكندي.
وترأس الشيخ مرزوق بن محمد المنذري الكلية التاسعة بجامع العقر.
وكان على رأس الكلية العاشرة الشيخ العلامة سعود بن أحمد الإسحاقي وهناك الكثير والكثير.
أعود إلى مسجد الفرض أو مسجد الأحوص حيث حلَّ الطالب نبهان بن سيف بن سالم بن سرور بن سالم بن سيف المعمري ليغلق الدائرة التي تبدأ من حيث يجلس الشيخ العلامة سالم البوسعيدي. وقد سبق الطالب نبهان إلى نفس المسجد وذات حلقة الدرس طلبة من نخل من بينهم سيدي الخال سعيد بن خلف الخروصي والطالب سعيد بن محمد الكندي ، والتحق في مرحلة تالية سيدي الخال سليمان بن خلف الخروصي.
جاء الطالب نبهان المعمري إلى الزمن النزوي من حاجر المفاخر والعزة لبني عمر حيث ولد.
ومن بلدة الحيلين حيث ختم القرآن.
ومن ودام الغاف حيث استظل بالعمائم البيضاء.
إلا أن الأجمل في سرد سيرة هذا الشامخ العماني أن تُتْلى بصوته لا أن تُقْرأ من صفحات كُتَّاب السِّيَر أو عبر مقالات طلابه ومريديه، فالشيخ العلامة نبهان بن سيف بن سالم المعمري العلامة في سرده لرحلته الأثيرة إلى نزوى يقدمها على طريقة الحكائين الأوائل وأصحاب المقامات والرحالة الذين يجوبون الحواضر الاسلامية المتوزعة بين المشرق والمغرب.
والأجمل ما بسرده تلك الفصاحة العمانية الغائرة في محليتها العذبة.
ولقد أحسن أحباب الشيخ نبهان فتنبهوا لأمر توثيق سيرته بصورته وصوته.
وتمثل العديد من الفيديوهات كنزا وثائقيا عنه وعن الزمان والمكان وعن سادة الزمان والمكان.
وكان الشيخ نبهان رائعا وهو يسوق قوافي الشعر فيقرِّب ويقارب بين محطات الارتحال إلى تخت الأئمة “مذ كانت ومذ كانوا”.
وجاءت على لسان الشيخ بلدة”مري” التي استهل بها حديث الترحال فكان في كل فيديو وكل جلسة بقدمها ببيت الشيخ العلامة إبراهيم بن سعيد العبري:
“وسائلة عن اسم داري ودمعها
يمرُّ على الخدين قلتُ لها مرِّي”.
وتحسر الشيخ في سرده على أعمار تُفْنى دون أن تُغْتَنم في طلب العلم فتمتم شفتاه ببيتي أحمد بن فارس الرازي:
“إذا كان يؤذيك حر المصيف
ويبس الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن زمان الربيع
فأخذك للعلم ، قل لي متى؟”
ويعرِّج الشيخ في سرده على الوعيد للعالِم الذي لا يعمل بعلمه كما في بيت أبي رسلان الذي يسوقه دوماً بتوجع :
“وعَالِمٌ بعِلمِهِ لَمْ يَعْمَلَنْ
مُعَذَّبٌ مِنْ قَبْلِ عُبَّادِ الوَثَنْ”
وفي السيرة المجللة بصوته هي سيرة لإحياء الأمكنة ، فالطالب نبهان المعمري يجوب بصوته قفارا لا تتكرر بلافتاتها المرورية اليوم بعد أن استُحْدِثَتْ مسالك جديدة ببن المصنعة ونزوى وبقية مدن عمان وقراها.
وقدَّمَ “النفيجيتر” عدة خيارات تختصر المسافات وتعطِّل مقولة “غوتة” شاعر ألمانيا “السفر طويل لولا الوصول”.
وبالعودة لسيرته كما يسردها بصوته في الفيديوهات سنستمع لوقع خطاه وخطى أخيه والكثير من الحجارة التي تتهشم تحت أرجل تنتعل الصبر وقد كان “الإقدام ركابا”.
وننصت لعواء الريح الذي لا يخيفهما بل يجلب صحبة للطريق.
لقد سلَّم عليٌّ ونبهان الأقدام لدروب مهَّدتها مشورة الأدلاء فصعدا صوب بلدة مُرّي كما قلنا فالنجد ثم عقبة “شنيتة” وهما يردِّدان مع البدو مآثر السكان:
“إذا ما غدفنا عقاب شنيتة
الجوع والعطش ما حاتيتة”.
ويسيران بمحاذاة الجبل الأخضر ثم يتركاه على يمينهما ويتيمما صوب جبال وأودية موصولة بأكمات تتدرج في الصعود حتى وادي جيل ثم عقبة الصفا فوادي الهجر فالمسفاة أعلى جبل الكور فالانحدار صوب وادي غول فالحمراء وانتهاء بنزوى.
ويتكثف في السرد ذكر الشيخ نبهان للقبائل التي تسطر مجد البوادي عبر مشوارهما المبارك إلى مدرسة الإمام الخليلي كقبائل بني عمر التي يرى الشيخ نبهان بأت تقاس على المفرد ليقال “عمري” لا “معمري” وهو نفس ما يراه العلامة الشيخ خلفان بن جميل السيابي.
وفي سرده لمشواره إلى نزوي يتحدث عن قبائل الجهاور والمقابيل وقبيلة بني بحري والهشم والحواتم والخواطر وآل عبرة بن زهران.
ويوثق وصوله دار الإمامة سنة ١٣٦٧هـ وهو اليوم الذي قبَّلت قدماه فيه الزعفران النزوي وكان ابن ثلاث وعشرين سنة .
وكان يومها شابا وفي في عمر يسمح له للجمع بين طلب العلم والعمل في دولة الإمام ككل مجايليه من منتسبي جامعة الإمام فتشرف بالعمل كمبعوث للإمام في قرى سمائل وبلدان الحرث وكجابٍ للزكوات.
ولم يستأثر مسجد الفرض بسنواته النزوية بل أتاحت له جامعة الإمام الخليلي فرص التنقل بين كلياتها فجمع بين دراسة الفقه والميراث في كلية الشيخ سالم البوسعيدي مسجد الفرض
واختلف على حلقة الدرس التي يحييها الشيخ العلامة منصور بن ناصر الفارسي بمسجد بشر بن المنذر المعروف بمسجد الشيخ.
وانتسب لثلاث حلقات بجامع العقر برئاسة المشايخ حامد بن راشد الشكيلي ومرزوق بن محمد المنذري السعالي وحمود بن زاهر الكندي.
إلا إن لكل بداية نهاية فآذن الزمن النزوي الزاهي بالأفول وكانت شمس الثامن والعشرين من شعبان لسنة ١٣٧٣م آخر شمس تشرق في سماء دولة الإمام الرضي الخليلي ، فنهار التاسع والعشرين من شعبان لسنة ١٣٧٣م غابت شمسه تحت غيمة داكنة ، وتكفلت ديمة كالحرير لتشيع النعش إلى بقيع الأئمة ، فالرضي الخليلي يغادر والرضي غالب الهنائي يصدع بالأمر لتدخل نزوى زمنا جديدا تبدلت فيه بعد ذلك بفترة الراية على سارية الشهباء.
وقد تفهم الشيخ نبهان المعمري لدورة التاريخ وتفرُّق رفاق العمر ، فنزوى التي تجشم لبلوغها عناء عبور الجبال والقفار هاهي ذات الجبال الوعرة تستدعيه ليسلكها في طريق العودة ، فغادرها ثم ركب البحر نحو مملكة آل سعود ليواصل الدراسة.
وطوال سبع سنوات أخر جرب فيها المواءة بين الدراسة والعمل في التجارة ثلث الملك بين الرياض والدمام ففاز عاشق الكتاب على المتهافت للدرهم والدينار.
ومع فجر النهضة المباركة في يوليو ١٩٧٠ عاد مع من عادوا ليسرج مطايا الشوق إلى عمان الغالية حيث حاجر بني عمر والحيلين وودام الغاف ، فالتحق تحت الراية البوسعيدية الشامخة بسلك التعليم كمدرس.
وتحول بيته بودام الغاف إلى شرفة للأمس المتوهج بعمائمه وبيارقه فتزاحم الناس عليه ليستعيدوا زمنا عاشه ليعيشوه بأثر رجعي معه.
وطوال أكثر من نصف قرن في كنف النهضة العمانية كان الشيخ نبهان المعمري قمر بلدته وعقل عشيرته وذاكرة الأمكنة وعطرها.
ورغم أن نزوى لم تستأثر إلا بسبعة أعوام من بين مائة عام هجري عاشها، إلا أن السنوات النزوية على قصرها كانت هي التي تتكرر فينطقها يقلبه قبل لسانه.
وكلما مرَّت بيضة الاسلام في الخاطر تبارتْ أدمعه مع “دارس والغنتق وضوت”.
وكان لي شرف لقياه في أكثر من مناسبة فشعرت بأبوته التي يفيضها على الأجيال.
وفي الثالث من سبتمبر من عام ٢٠٢٤ سلم الشيخ العلامة نبهان بن سيف بن سالم بن سرور بن سالم بن سيف المعمري عمامته وعصاه ونظارته ومائة عام من عمر أفناه في طاعة الله ورسوله وحب عمان وأهلها
حمود بن سالم السيابي
مسقط في الرابع من سبتمبر ٢٠٢٤م.