لا أدرى كيف سيقيّم الكاتب الأمريكى المرموق توماس فريدمان الذى قضى سنوات من عمره ومما يكتبه، خاصة فى عموده اليومى بصحيفة نيويورك تايمز، دفاعاً مستميتاً عن إسرائيل بعد ما أضحى مؤكداً للعالم كله أن بنيامين نيتانياهو تعمد إدارة مفاوضات «زائفة» حول صفقة الرئيس الأمريكى جو بايدن الخاصة بتبادل الأسرى بين إسرائيل وحركة «حماس» ووقف حرب «الإبادة والتطهير العرقى» عن قطاع غزة على مدى الأشهر الثلاثة الماضية، وأنه بات مؤكداً، وعلى لسان نيتانياهو نفسه (2024/8/20) أن إسرائيل «لن تنسحب من محورى فيلادلفيا ونتساريم تحت أى ظرف» واعتبر أن المحورين يعدان “أصولاً إستراتيجية لإسرائيل سواء من الناحية العسكرية أو السياسية. لم يأبه نيتانياهو بمواقف الأجهزة العسكرية والأمنية الإسرائيلية المؤيدة للانسحاب من المحورين، وقال فى لقاء مع بعض عائلات الأسرى لدى «حماس» (2024/8/26) إنه «لا يهمه موقف المؤسسة الأمنية والعسكرية بشأن محور فيلادلفيا»، ونسبت إليه صحيفة «معاريف» قوله «إذا انسحبنا من محور فيلادلفيا الآن سنتعرض لضغوط هائلة لمنع احتلاله مجددا». عندما نتحدث عن توماس فريدمان، فإننا لا نتحدث عنه فقط من منظور كونه “يهوديا شديد الولاء لإسرائيل ودعم كل مطالب إسرائيل” بل لكونه يقدم نفسه بصفته «صاحب رؤية حسنة لمستقبل الشرق الأوسط». فقد سبق أن قام بدور أساسى فى بلورة مفاهيم «المبادرة السعودية»، التى تحولت فيما بعد إلى «مبادرة عربية للسلام» وصدرت عن مؤتمر القمة العربى المنعقد فى بيروت عام 2002، وتحدثت عن «مبدأ مبادرة الأرض بالسلام» والتطبيع العربى الشامل مع إسرائيل مقابل الانسحاب الإسرائيلى الكامل من الأراضى العربية المحتلة. هذه الأيام عاد فريدمان ليقوم بدور جديد مشابه، هدفه الدفع بمسيرة «التطبيع العربى – الإسرائيلى» البادر والمتعثر، ومن هنا كانت نظرته إلى مدى حساسية الفترة التى نعيشها من عمر الصراع، وبالذات للزيارة التى قام بها بنيامين نيتانياهو فى الأسبوع الأخير من شهر يوليو الماضى للولايات المتحدة وخطابه الذى ألقاه أمام الكونجرس بدعوة من الكونجرس نفسه وليس بدعوة من الرئيس الأمريكى جو بايدن. فقد كتب فريدمان صبيحة يوم إلقاء نيتانياهو خطابه أمام الكونجرس (الأربعاء 2024/7/24) مقالا مهما كان من الواضح أنه يخاطب فيه بنيامين نيتانياهو ويشجعه على «التقاط اللحظة المهمة» من أجل “صنع السلام»، وتحدث فيه عن أهم الخيارات التى فى مقدور نيتانياهو أن يقدم عليها من أجل صنع ذلك السلام الذى يراود فريدمان، الذى هو بالطبع «السلام الذى يحقق كل مصالح إسرائيل فى الأمن والوجود والتمدد والسيطرة»، وفى مقدمتها تطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل والانخراط العربى مع إسرائيل فى «محور» تقوده الولايات المتحدة ضد إيران ومن يسير فى فلكها ضمن «محور المقاومة» الذى يعادى إسرائيل ويرفض القبول بسيطرتها. حول «أهمية اللحظة» وكان يقصد بها فريدمان زيارة نيتانياهو وخطابه أمام الكونجرس وما يجب أن يستهدفه، وكان يقصد إدراكه حقيقة أن «إسرائيل انهزمت أمام حركة حماس»، وأن أمامها «فرصة تاريخية» من خلال المبادرة المطروحة عليها منذ 31 مايو الماضى باسم الرئيس الأمريكى جو بايدن لتبادل الأسرى ووقف الحرب «كى تقف إسرائيل مجددا على قدميها» بعد أن تحولت إلى «دولة منبوذة» عالمياً، ودولة فاشلة «إقليميا»، قال فريدمان «نحن نتحدث عن لحظة بالغة الأهمية لإعادة تشكيل الشرق الأوسط منذ كامب ديفيد فى السبعينيات من القرن الماضى». وكان يعنى أن الشرق الأوسط، فى ظل ما يدور من مفاوضات تشارك فيها الولايات المتحدة ومصر وقطر للبحث فى تفعيل وإنجاح «صفقة بايدن» المتعثرة بسبب التعنت الإسرائيلى، مقبل على عملية «إعادة هندسة» للنظام الإقليمى الشرق أوسطى كله، وقال إن الوساطة الأمريكية فى مفاوضات تلك الصفقة بين إسرائيل وحركة حماس بوساطة مصرية – قطرية قد أفضت إلى قرارين هما الآن على مكتب بنيامين نيتانياهو. القرار الأول يقضى بموافقة فورية من نيتانياهو على اتفاق وقف إطلاق النار مرحلى وتبادل الأسرى ينهى الحرب على غزة، ويفتح الباب أمام البدء فى مفاوضات «اليوم التالى» لوقف الحرب، أى مستقبل غزة. والثانى الموافقة على المسار الثانى من التفاوض الذى خاضته الولايات المتحدة مع المملكة العربية السعودية ويقضى بتوقيع اتفاقية دفاعية أمريكية – سعودية تفتح الباب أمام تطبيع العلاقات السعودية – الإسرائيلية والإعلان الإسرائيلى بقبول خيار «الدولة الفلسطينية» بما يسمح ببناء «تحالف دفاعى إقليمى» بمشاركة عربية ضد إيران. فريدمان كتب، بتفاؤل هذا المقال صبيحة خطاب نيتانياهو أمام الكونجرس الذى أكد فيه مطالبته بـ «غزة منزوعة السلاح وخالية من المتطرفين بعد انتهاء الحرب». وقال «بعد انتصارنا، بمساعدة شركائنا الإقليميين، فإن غزة منزوعة السلاح وخالية من المتطرفين يمكن أيضاً أن تفضى إلى مستقبل من الأمن والازدهار والسلام».. «تلك هى رؤيتى لقطاع غزة». أكد نيتانياهو بعد ذلك عملياً، انخراطه ضمن المشروع اليمينى التوراتى المتطرف الذى يسعى إلى تأسيس «النسخة الثانية من إسرائيل»، الذى يسعى أولاً بالنسبة لقطاع غزة إلى القضاء نهائيا على كل حركات المقاومة وليس فقط حركة «حماس»، وفرض الحكم العسكرى الإسرائيلى على القطاع، وفرض التهجير على من تبقوا أحياء من أهالى غزة إلى شمال سيناء، توطئة لـ«ضم قطاع غزة» إلى إسرائيل، ومن بعده الضفة الغربية لـ«توسيع مساحة إسرائيل» التى يبشر بها الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب إذا عاد رئيسا مرة أخرى إلى البيت الأبيض كى يتحقق حلم «إسرائيل الكبرى». ماذا سيكتب فريدمان عن هذا «المشروع البديل»، وكيف سيكون الموقفان الأمريكى والعربى إذا ما سعى نيتانياهو إلى فرضه كأمر واقع؟!!
د. محمد السعيد إدريس