جاء في عاطر الحديث الأبوي السَّامي لحضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم في أثناء لقائه بالمواطنين في عام 2022، «أنَّ تربية الأبناء لا تتمُّ عَبْرَ شبكات التَّواصُل الاجتماعي، بل هي جزء من أصلِ المُجتمع العُماني»، وأنَّه «عِندما يتشرب أبناؤنا عاداتنا وتقاليدنا والتمسُّك بالأُسرة والمُجتمع يتحقق نجاح المُجتمع»، كما أنَّ «التقنيَّات الحديثة وُجدت لخدمة البَشَريَّة، لكنَّنا مع الأسف نستغلها بطريقة سلبيَّة جدًّا، وقد أثَّرت على النَّشء، ليس في بلدنا وحسب، ولكن في جميع أنحاء العالَم». ووجَّه جلالته أفراد المُجتمع إلى المحافظة على «إرثنا وترابطنا الاجتماعي، وعلى تربية أبنائنا وبناتنا التَّربية الصَّالحة».
وبالتَّالي يعكس حديث جلالة السُّلطان المُعظَّم عن تربية الأبناء ومسؤوليَّة الأُسرة ودَوْر الوالديْنِ، وإشارته إلى أنَّ تربية الأبناء جزء أصيل من ثوابت المُجتمع العُماني فهي لا تتمُّ عَبْرَ المنصَّات الاجتماعيَّة والظواهر الصوتيَّة وحالة الإعجاب السلبي والتَّقليد الأعمى لِمَا يَدُور في فلك منصَّات التَّواصُل الاجتماعي وما يتمُّ عَبْرَ الصورة الأخرى الَّتي يقدِّمها مَن يُسمَون بالمشاهير والَّتي باتتْ تُشكِّل هاجسًا خطيرًا في الانتقال بالأبناء من حاضنة التَّربية السَّليمة والبناء المتوازن إلى الإعجاب السّلبي والإبهار المادِّي الَّذي باتَ يلازم مشاهير المنصَّات، ويتجاوز كُلَّ معاني التَّربية والمسؤوليَّة ومفاهيم الاحترام والبِر والإحسان للوالديْنِ إلى تعميق الفجوة السُّلوكيَّة وخلق صورة أخرى محورها الحصول على الكسب المادِّي والشهرة وسرقة الأضواء بِدُونِ جهد أو وضوح مسار، يعكس حجم التَّأثير السّلبي لهذه المنصَّات الاجتماعيَّة التفاعليَّة في ظلِّ غياب الاستغلال الأمثل لها والاستثمار الموَجّه لمُكوِّناتها، وغياب الرقابة للمحتوى الَّذي باتَ ينتشر عَبْرَ قنواتها انتشار النَّار في الهشيم، ما يجعل من هذا الأمْرِ هاجسًا وطنيًّا، ومسؤوليَّة يجِبُ أن تدركَها كُلُّ مؤسَّسات التَّربية والتَّنشئة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، وأن ترعَى الدَّولة عَبْرَ منظوماتها التَّربويَّة والتَّشريعيَّة والقضائيَّة والأمنيَّة والاجتماعيَّة والأخلاقيَّة مسؤوليَّة إيجاد موَجّهات ضابطة وبرامج تقنينيَّة تحافظ على وجود الأبناء في هذه المنصَّات من مخاطر الانحراف الفكري والأخلاقي وتأثيراته على تشكيل هُوِيَّة الأبناء وأخلاقهم.
وعَلَيْه، وفي ظلِّ ارتفاع سقف المؤثِّرات السّلبيَّة للتِّقنية والمنصَّات الاجتماعيَّة، وطرحها اليوم كمسار آخر للتَّثقيف والتَّوعية وتوجيه الأبناء واستخدامها في التَّربية والتَّعليم وأحد المصادر الَّتي يتلقَّى مِنْها الأبناء مفاهيم الواقع وتصوُّرات المستقبل، كان هذا التَّوجيه السَّامي لجلالة السُّلطان إطار عمل وطني متكامل في بناء الأُسرة وتربية الأبناء وتنشئتهم على السَّمت العُماني الأصيل، وتعظيم الهُوِيَّة والقِيَم والأخلاق ومسار نُموِّها في حياة الأبناء بنُموِّ عمرهم الزمني، وقدرة هذه الموَجِّهات القيميَّة على ضبطِ نوازعهم الذَّاتيَّة وتصحيح المفاهيم المغلوطة الَّتي باتتْ تبثُّها التِّقنية ويمارسها مُجتمعها، ما يؤكِّد على أهميَّة تشكيل حواجز صدٍّ وطنيَّة تضْمَن تكاتف جهود منظومات المُجتمع بِدَوْرها في خلق توأمة بَيْنَ الاستفادة من هذه التَّقنية في إيصال روح التَّغيير في حياة الأُسرة، وتقديم صورة الاستثمار لها في إطار من استنطاق الأخلاق وسلامة المنهج لمزيدٍ من العطاء والإنتاجيَّة، في ظلِّ ما باتَ يُثيره تطوُّر التقنيَّات الحديثة والذَّكاء الاصطناعي وغيره من مخاوف على المُكوِّن البَشَري، الَّذي يجِبُ أن تقرأَ التِّقنية في مُكوِّنه النَّفْسي والفسيولوجي والعاطفي روح التَّغيير، عَبْرَ مدِّ خيوط التَّرابط والتَّكامل وجسور التَّواصُل بَيْنَ المحتوى التِّقني وما يحتاجه الأبناء في عالَم متغيِّر، مع ربطِ ذلك بتراث الأجداد وقِيَم الآباء، والموروث الحضاري القِيَمي العُماني، وتمكين الأُسرة من التَّعاطي الواعي والحصيف مع هذه المتغيِّرات الَّتي باتتْ تسلبُ النَّشء إرادته، وتؤثِّر على هُوِيَّته وثقافته.
إنَّ هذه المعطيات تؤكِّد اليوم على أهميَّة إعادة إنتاج الدَّوْر المستقبلي للتِّقنية وتعزيز البُعد الروحي لها بما يُعزِّز من فرص الاستثمار النَّوْعي فيها، من حيث رفع درجة المهارات وبناء قدرات الأبناء في التَّعامل مع التِّقنية والمنصَّات الاجتماعيَّة وقدرتهم على اكتشاف الفرص الإيجابيَّة المُتحقِّقة مِنْها، ورفع درجة الجاهزيَّة الفكريَّة والنَّفْسيَّة والمهاريَّة للأبناء في التَّعامل مع أدواتها وقنواتها ووسائطها المُتعدِّدة، ليس في امتلاكهم مهارة استخدام التِّقنية فحسب، بل أيضًا في استيعابهم للموَجِّهات الفكريَّة الَّتي تعمل كمصدَّات حماية من الاختراقات والهشاشة الفكريَّة للأبناء، وبالتَّالي يمتلك من ممكِّنات المواجهة والحسِّ الأمني المعلوماتي وتوظيف البيانات وإعادة إنتاج التِّقنية بما يحفظ أمْن الإنسان وأخلاقه وقِيَمه بالشَّكل الَّذي يُصبح فيه قادرًا على مواجهة الاختلالات الفكريَّة الَّتي باتَ يعيشها الأبناء وارتفاع مستوى القلق لدَيْهم في ظلِّ ارتفاع أعداد الباحثين عن عمل والمُسرَّحِين من أعمالهم، وغياب الفرص الدَّاعمة للابتكار والإنتاجيَّة لِتضعَهم هذه الإسقاطات في حالة مستمرَّة من الهواجس الفكريَّة والقناعات غير السارَّة والأمراض النَّفْسيَّة وغيرها.
وفي الشَّأن نَفْسه أن يصنعَ التَّعليم من التِّقنية فرصة للتَّسويق القِيَمي والأخلاقي ومنصَّة لترسيخِ القِيَم العُمانيَّة الأصيلة والسَّمت العُماني؛ لِمَا تُمثِّله من فرص الانتشار السَّريع وتداولها في كُلِّ أنحاء العالَم والميزات والخصوصيَّات الَّتي تُتيح لها ميزة التَّأثير والإبهار في ظلِّ صناعة المحتوى الرَّقمي وطريقة التَّعبير وأساليب نشرِ المعلومات وحجم التَّأثير الَّذي يُمكِن أن تقدِّمَه في هذا الأمْرِ، وبالتَّالي الاستثمار الاقتصادي والبَشَري في ظلِّ ما باتَتْ تُقدِّمه منصَّات التَّسويق الإلكتروني من فرصٍ واعدة يقوم بها الفرد وهو في بَيْتِه بِدُونِ أن يكلفَه ذلك أيّ التزامات ماليَّة، بل أيضًا في التَّسويق لمنتجه وابتكاراته وإبداعاته واختراعاته، ومن جهة أخرى استحضار البُعد القِيَمي والأخلاقي، ففي ظلِّ ما باتَتْ تُقدِّمه التقنيَّات للشَّباب من موادَّ غير أخلاقيَّة وإغراءات وإثارات خارجة عن الآداب والقِيَم والأخلاق وغيرها، أو أن تتجهَ به والعياذ بالله في ظلِّ عوامل التَّأثير الفكري واتِّساع الظَّواهر السلبيَّة كالتنمُّر، والحركات التَّحريضيَّة كالإلحاد والنسويَّة والفكر التَّكفيري الَّتي يتعرض لها مستخدمو هذه المنصَّات من قِبل المؤثِّرين والحسابات الوهميَّة، لِيكُونَ لدَيْه رصيد قِيَمي يُعزِّز فيه حاجز الصَّد ويُقدِّم له أدوات التَّغيير الَّتي يجِبُ أن يعتمدَ عَلَيْها في الحدِّ من هذا الانحراف الفكري والأخلاقي. ومن خلال ما يطرحه من وجهات نظر عَبْرَ هاشتاق منصَّة (X)، فيعيد تحسين الصورة وضبط الممارسة، ما يؤكِّد على أهميَّة تعظيم مسار التِّقنية في حياة الأبناء في قدرتهم على استخدامها في إعادة إنتاج الممارسة وتصحيح ثورة الواقع وضبط بوصلته.
أخيرًا، ومع اليقين بأنَّ المُكوِّن الأُسري في عُمقه واتِّساعه يتفاعل وبقوَّة مع أولويَّات رؤية «عُمان 2040»، انطلاقًا ممَّا تُمثِّله تربية الأبناء والتَّنشئة الأُسريَّة والوالديَّة من دَوْر محوري في مَسيرة البناء الإنساني والوطني والأخلاقي، فإنَّ مؤشِّرات النَّجاح المتحقِّقة في المسار التَّنموي الاجتماعي في مختلف فصول التَّنمية، ما هو إلَّا انعكاس لِدَوْر الأُسرة والمساحة الَّتي تمنح للنَّشء في مَسيرة البناء الوطني؛ لذلك كانتِ الحاجة إلى تعظيم مسار تربية الأبناء؛ باعتباره مشروعًا حضاريًّا وطنيًّا للمستقبل، في ظلِّ متغيِّرات اقتصاديَّة واجتماعيَّة الَّتي باتتْ تؤثِّر على حياة الأُسرة ومسؤوليَّاتها في تربية الأبناء وعمليَّة التَّنشئة الاجتماعيَّة، لذلك يأتي التَّأكيد على أن تبقَى مسؤوليَّة الأُسرة في الحفاظ على درجة التَّوازنات في التَّعاطي معها لصالحِ تربية الأبناء وتنشئتهم المتوازنة فكريًّا وأخلاقيًّا ومهاريًّا وعاطفيًّا، بحيث لا يكُونُ وجود هذه الظُّروف والمتغيِّرات والأحداث المفاجئة، وتدخل التِّقنية وسلب الكثير من المهام الوالديَّة، مبرِّرًا لتخلِّي الأُسرة عن دَوْرها أو تملُّصها من مسؤوليَّاتها، أو إلقاء التبعيَّة واللَّوم على التقنيَّات ومنصَّات التَّواصُل الاجتماعي، وبالتَّالي نؤكِّد على أهميَّة أن يكُونَ التزام الأُسرة بتربية الأبناء وتنشئتهم على القِيَم والأخلاق والثَّوابت الوطنيَّة استحقاقًا وجوبيًّا للأبناء، ما يؤكِّد على أهميَّة إيجاد الضَّوابط والممكنات الَّتي تلزم الأُسرة والوالديْنِ مسؤوليَّة أداء هذا الدَّوْر بكفاءة عالية، حتَّى في أحلك الظُّروف ومِنْها طلاق الوالديْنِ، الأمْرُ الَّذي يؤكِّد على وجوبيَّة إدخال بعض المواد التَّغييريَّة الضبطيَّة في قانون الأُسرة وقانون الأحوال الشَّخصيَّة وقانون الحماية الاجتماعيَّة وغيرها لضمانِ حقِّ تربية الأبناء وحُسن رعايتهم والتَّنشئة السّليمة لَهُم.
د.رجب بن علي العويسي