من أبرز القيم التي يدعو إليها القرآن الكريم هي الحكمة والعدل والرحمة، وتنعكس هذه القيم جلياً في العديد من سوره وآياته المباركة، وتأتي سورة النمل كمثال عظيم في بيان حكمة الأنبياء وعملهم الدؤوب لنشر رسالة التوحيد والعدل في الأرض، فقد سرد الله تبارك وتعالى في هذه السورة قصة سيدنا سليمان عليه السلام وحكمته في التعامل مع الناس والجن والطير، مما يعكس ضرورة الربط بين العلم والإيمان وبين التفسير العملي للشريعة الإسلامية.
إن هذه القيم الربانية التي أُمرنا باتباعها، تفرض علينا الاهتمام بعلوم التفسير والتحصيل الديني، ليس فقط لفهم النصوص القرآنية، بل لتطبيقها عملياً في حياتنا اليومية، فالتفسير ليس مجرد علم نظري، بل هو وسيلة لتعميق الفهم وتوجيه الأفعال وفق مراد الله تبارك وتعالى.
ومن خلال الاهتمام بعلوم الدين ودراستها بعمق، نستطيع تعزيز روابطنا بالإسلام وبناء مجتمع قوي يسير على هدي القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن هنا، فإن دراسة التفسير وتدبر آيات الله عز وجل، هي من أفضل وسائل تقوية العلاقة بين المسلم ودينه، مما يعزز العمل الخالص في سبيل الله والتطبيق العملي للشريعة في مختلف جوانب الحياة.
واستكمالاً لتفسير سورة النمل، اعتماداً على كتب التفسير المشهورة مثل تفسير الطبري، تفسير ابن كثير، تفسير القرطبي، وكذلك بعض التفاسير المعاصرة مثل تفسير السعدي والظلال وغيرهم، يركز على إثبات توحيد الله وبيان دلائل قدرته ووحدانيته من خلال عرض مظاهر خلقه وتدبيره للكون.
بسم الله الرحمن الرحيم
أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ۚ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ ۚ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا ۖ بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ.
في الآية: “أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ”: يفسر المفسرون هذه الآية بأنها تساؤل تقريري يظهر استحالة وجود إله آخر مع الله، فالآية تعرض دلائل قدرته سبحانه وتعالى، إذ جعل الأرض قرارًا مستقرًا صالحًا للحياة، وأنزل فيها الأنهار التي تجري بين الجبال والوديان، وثبت الأرض بالجبال (الرواسي) حتى لا تميد، وجعل بين المياه العذبة والمالحة حاجزاً يمنع اختلاطهما إلا في حدود معينة، ثم يأتي التساؤل الاستنكاري: “أإله مع الله؟” ليُظهر استحالة وجود شريك لله في هذه الأعمال العظيمة.
وفي الآية: “أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ”: المفسرون يتفقون على أن هذه الآية تستعرض قدرة الله في إجابة المضطر الذي يلجأ إليه بالدعاء في الشدائد، وكيف يزيل الله عنه الضُرّ. فالآية تُبرز قدرة الله على الفرج بعد الشدة، ثم تعود لتطرح السؤال الاستنكاري مجددًا: هل هناك إله مع الله يقوم بهذا؟! ويختتم الآية بالتنبيه إلى قلة التذكّر والتدبر لدى الناس في هذه الآيات البينات.
أما في الآية: “أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ”: هذه الآية تشير إلى هداية الله لعباده في ظلمات البر والبحر، سواء بالهداية الحسية عبر النجوم والمخلوقات، أو بالهداية المعنوية عبر توجيه الإنسان في الحياة. وتُذكّر أيضًا بإرسال الله للرياح تحمل معها بشرى المطر والرحمة. ومن ثم يعاود السؤال الاستنكاري: “أإله مع الله؟”، ليدحض فكرة الشرك ويمجّد الله عن كل شريك.
“أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ”: يفسر العلماء هذه الآية بأنها دليل على قدرة الله في البدء والإعادة، أي خلق الإنسان وغيره من المخلوقات ثم إعادتها بعد الموت يوم القيامة. كما أنه سبحانه هو الذي يرزق الناس من السماء بالمطر ومن الأرض بالنبات والثمرات، والتساؤل يتكرر مرة أخرى لينفي أي إله مع الله. وفي ختام الآية، يتحدى الله المشركين أن يأتوا ببرهان إن كانوا صادقين في دعواهم بوجود إله آخر.
“قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ۚ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ”: تؤكد هذه الآية على أن علم الغيب محصور في الله وحده. لا يعلم من في السماوات والأرض شيئاً عن الغيب، ولا يعلمون موعد بعثهم يوم القيامة، فالآية تثبت جهل الخلق في أمور الغيب وترد على من يدعي علمه.
“بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ ۚ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا ۖ بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ”: يذكر المفسرون أن هذه الآية تشير إلى تردد المشركين في حقيقة الآخرة، فهم في شك منها، بل وأكثر من ذلك، هم في عمى تام عنها ولا يستطيعون إدراك حقيقتها بسبب جهلهم وضلالهم. فالآية تؤكد عدم يقينهم بالبعث والحساب.
بالتالي، إن هذه الآيات تبرز قدرة الله على تدبير الكون بأكمله من خلال خلق الأرض وتثبيتها، وتوفير الأرزاق، والهداية في الظلمات، واستجابة دعاء المضطرين، وفي المقابل، لا يوجد أي إله آخر يمكنه فعل هذه الأمور، مما يوضح وحدانية الله تبارك وتعالى، ويدعو الإنسان للتفكر في هذه الأدلة الدامغة على قدرة الله عز وجل وضرورة التوحيد.
وانتقالاً إلى جماليات هذه الآيات لغوياً وبلاغياً، نجد أن هذه الآيات من سورة النمل، تحمل في طياتها جماليات لغوية وبلاغية تعكس بلاغة القرآن الكريم وروعة أسلوبه:
أولاً، الاستفهام الإنكاري: في بداية كل آية، يأتي الاستفهام بصيغة “أَمَّن” كوسيلة لإنكار الشركاء المزعومين، هذا الأسلوب يثير الانتباه ويحث على التفكير، حيث يطرح السائل سؤالًا لا يقبل الشك في عظمة الله ووحدانيته، مما يعزز القناعة بأن الله هو الخالق والرازق.
ثانياً، التكرار: إن استخدام صيغة الاستفهام المتكررة “أَمَّن” يعكس الإلحاح في الدعوة إلى التفكر والتأمل في قدرة الله، وهو أسلوب بلاغي يعزز من قوة المعنى ويوصل فكرة أن الله هو الواحد الأحد الذي لا شريك له في الملك.
ثالثاً، التفصيل في الصفات: إن الآيات تذكر بعض من صفات الله وأفعاله العظيمة، مثل “جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا”، “يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ”، “يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ”، مما يعطي صورة شاملة عن عظمة الله ورحمته، ويظهر كيف أن كل جانب من جوانب الحياة مسيطر عليه من قبل الله.
رابعاً، التوازن في الجمل: تظهر الآيات توازناً جميلاً في تركيب الجمل، مما يسهل على المتلقي استيعاب المعاني، على سبيل المثال، تأتي كل صفة بعد “أَمَّن” في سياق متوازن يعكس قدرة الله في خلق الكون وتدبيره، مما يعكس تنسيقًا بليغًا بين المعاني.
خامساً، الاستدلال المنطقي: تسير الآيات في استدلال منطقي يعكس قناعة عظيمة، حيث تُطرح الآيات كأدلة على قدرة الله، مما يُشعر القارئ بأن هذه الحقائق لا تقبل الجدل أو النقاش.
سادساً، العمق في المفهوم: تتضمن الآيات تلميحات عميقة تدعو للتفكر، مثل العلاقة بين الخالق والمخلوق، وتطرح مفاهيم مثل الرزق، والإجابة على الدعاء، والهداية، مما يعكس تنوع المعاني وقدرتها على الارتباط بحياة الفرد اليومية.
سابعاً، إثارة العواطف: تثير الآيات مشاعر الخوف والرجاء في قلوب المؤمنين، حيث تذكرهم بعظمة الله وقدرته على الإجابة والدعاء وكشف السوء، مما يخلق توازنًا عاطفيًا يعكس العلاقة بين العبد وربه.
ثامناً، النهاية المفتوحة: تختتم الآيات بدعوة للناس أن يقدموا براهينهم إن كانوا صادقين، مما يعكس ثقة الله في نفسه وقدرته على الإقناع، ويحث الآخرين على التفكير العميق والبحث عن الحقائق بأنفسهم.
بالتالي، إن جماليات هذه الآيات تكمن في لغتها الفصيحة وأسلوبها البلاغي، الذي يجذب القارئ ويحثه على التأمل في عظمة الخالق. من خلال التركيب اللغوي والتعبيرات البلاغية، ويُظهر القرآن الكريم قدرة الله ورحمته ويعزز من شعور الإنسان بالامتنان والإيمان، هذه الجماليات لا تضفي فقط جمالاً على النص فقط ، بل تعكس أيضاً عمق المعاني وروعة الرسالة التي يحملها.
وفي خلاصة هذه الجولة الروحانية، تظهر الآيات من سورة النمل جمال بلاغة القرآن الكريم وروعة أسلوبه، حيث تتجلى فيها عظمة الله وقدرته على خلق الكون وتدبيره، إن الاستفهام البلاغي والاستدلال المنطقي يحملان دعوة صريحة للتفكر والتأمل في كل ما يحيط بنا، مما يعزز قيم التوحيد ويعمق روابط الإيمان في قلوب المؤمنين.
وتذكرنا هذه الآيات بأهمية الالتزام بتعاليم الدين وعلوم التفسير، حيث إن فهم المعاني الدقيقة وراء كل كلمة يمكن أن يساهم في تعزيز الروابط الروحية والأخلاقية في حياتنا. إن القرآن هو مرشدنا في هذه الحياة، ومن خلال تدبر آياته، يمكننا أن نعيش حياة مليئة بالمعنى والغاية.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.