“إعادة برمجة مفهوم الثقافة في المجتمعات”… في عالم اليوم، الذي بات مشغولاً بالتطور التكنولوجي والحداثة، نجد أن بعض التغيرات الاجتماعية قد تسببت في ظهور سلوكيات جديدة تجاه فئات معينة من المجتمع، ومنها كبار السن، ومن بين هذه السلوكيات، ظاهرة غريبة تتجلى في كيفية تعامل البعض مع المسنين، وكأنهم خارج إطار الزمن الحديث، ففي مواقف حياتية مختلفة، مثلما يحدث في قاعات الانتظار في المستشفيات أو المطارات، يثير كبار السن انتباه المحيطين بهم إذا ما رأوهم ينغمسون في قراءة رواية أو كتاب غير ديني وهذا حصل معي شخصياً، تنظر إلينا بعض الأعين بنظرات استغراب، وكأنما تتساءل: “لماذا يقرأ هذا الكهل رواية بدلاً من القرآن؟”، وكأن القراءة والاطلاع خارج نطاق النصوص الدينية تصبح أمرًا غريبًا أو غير مقبول في هذه السن المتقدمة.
هذه النظرة، رغم أنها قد تبدو بريئة في ظاهرها، تعكس مشكلة أعمق في طريقة فهم المجتمع للثقافة وأدوار الأجيال المختلفة فيها، فالفكر الشائع لدى البعض هو أن القراءة الأدبية أو غير الدينية تعد نشاطاً غير ملائم لكبار السن، وأن هؤلاء الأشخاص عليهم الاقتصار على قراءة القرآن أو الانخراط في أنشطة دينية فقط فهم لربما ينظرون إلينا بأننا على حافّة القبر، وهذا بحد ذاته مفهوم خاطئ لمعنى الموت والحياة، الآجال لا يحددها السن، إنما “لكل أجل كتاب”.
هذا التصور يتجاهل حقيقة أن كبار السن، مثلهم مثل أي فرد آخر في المجتمع، يملكون حق اختيار ما يقرأون وما يهتمون به، والأمر الأكثر غرابة أن هؤلاء المنتقدين قد لا يكونون هم أنفسهم ممن يلتزمون بقراءة القرآن يومياً، بل ربما لا يقرؤون أي شيء على الإطلاق، بينما الرجل المسن الذي ينتقدونه قد يكون قارئًا نهمًا للقرآن والأدب على حد سواء.
النظرة السطحية لكبار السن
النظرة السطحية التي تتعامل مع كبار السن وكأنهم أقل قدرة على التعلم أو أقل استحقاقًا لممارسة الأنشطة الثقافية، ليست مجرد مواقف فردية عابرة، بل هي جزء من منظور مجتمعي يحتاج إلى تصحيح، فالثقافة لا تعرف عمراً محدداً، والمعرفة ليست مرتبطة بمرحلة الشباب فقط، إن القراءة، سواء كانت لروايات، أو كتب فكرية، أو دينية، تُغذّي العقل وتفتح أبوابًا جديدة من الفهم والتأمل، وكبار السن الذين يواصلون ممارسة هذه الأنشطة لا يثبتون فقط قدرتهم على الحفاظ على حيوية عقولهم، بل يعطون درسًا بأن التعلم والمعرفة رحلة لا تتوقف.
كذلك، في مواقف أخرى، نرى مظاهر أكثر وضوحاً لهذه النظرة الدونية، وهذا أيضاً حصل معي في عدة مواقف، فعندما يذهب رجل مسن إلى بنك أو مؤسسة حكومية لإنجاز معاملة ما، قد يُنظر إليه وكأنه غير مؤهل أو عاجز عن فهم الإجراءات، على سبيل المثال، إذا طُلب منه توقيع مستند، قد يُعرض عليه التوقيع للتأكد مما إذا كان توقيعه القديم محفوظًا في النظام، يُقدّمون له الورقة بعناية وكأنه شخص أمي أو غير قادر على تذكر توقيعه، دون أن يُدركوا أن هذا المسن قد يكون حاصلًا على شهادات علمية عليا، بل وربما يحمل من المعرفة والخبرة ما يفوق ذلك الموظف الذي يعامله بطريقة غير لائقة.
تأثير هذه الظاهرة على كبار السن والمجتمع
هذا التعامل يُشعر بعض كبار السن بأنهم معزولون عن المجتمع أو بأنهم قد أصبحوا عبئاً عليه، مما يزيد من شعورهم بالعجز والانفصال، كثير من هؤلاء الأفراد قد عاشوا حياة حافلة بالإنجازات والتجارب، ولكن بمجرد بلوغهم سناً معيناً، يبدأ المجتمع في تقليص أدوارهم وتجاهل قدراتهم، هذا الشعور قد ينعكس سلبًا على صحتهم النفسية، ويؤدي إلى عزلة داخلية لا مبرر لها.
في الوقت ذاته، يعاني المجتمع ككل من هذه النظرة المحدودة، إذ يحرم نفسه من الاستفادة من الخبرات الغنية والمعرفة التي يحملها كبار السن، التعامل معهم باستخفاف أو افتراض جهلهم ليس فقط انتهاكاً لكرامتهم، بل هو أيضًا خسارة للمجتمع الذي يفقد جزءاً من تراثه الفكري والاجتماعي.
كيف يمكننا تغيير هذه النظرة؟
١. إعادة تعريف الثقافة والقراءة:
علينا أن نُدرك أن الثقافة ليست محدودة بالعمر، وأن القراءة نشاط مستمر مدى الحياة، من الضروري تعزيز فكرة أن المسنين لهم الحق في اختيار ما يقرأونه وفقاً لما يثري عقولهم وأرواحهم، فلا يجب أن تكون هناك قيود مجتمعية أو تصورات مسبقة حول نوع الكتب التي يجب أن يقرأها الشخص بناءً على عمره.
٢. تشجيع الحوار بين الأجيال:
يجب أن نعمل على بناء جسور تواصل بين الأجيال المختلفة، الشباب يمكنهم أن يتعلموا الكثير من خبرات كبار السن، في حين يمكن للمسنين أن يواكبوا تطورات العصر من خلال تفاعلهم مع الشباب. الحوار المتبادل يعزز الاحترام المتبادل ويمحو الفجوات الفكرية.
٣. تعليم الموظفين احترام كبار السن:
ينبغي تدريب العاملين في المؤسسات الحكومية والخاصة على التعامل بحساسية واحترام مع كبار السن، والابتعاد عن الافتراضات المسبقة حول قدراتهم. فالتعامل معهم بكرامة يعزز من ثقتهم بأنفسهم ويجعلهم يشعرون بأنهم لا يزالون جزءًا هامًا من المجتمع.
٤. التوعية المجتمعية:
من المهم نشر التوعية حول أهمية احترام المسنين وإعطائهم الفرصة للانخراط في الأنشطة الثقافية والاجتماعية، يمكن القيام بذلك من خلال حملات إعلامية ومنصات تعليمية تُظهر القيمة التي يضيفها كبار السن إلى المجتمع.
٥. احترام التنوع الثقافي والاهتمامات الشخصية:
يجب أن نتعلم احترام اهتمامات الآخرين، بغض النظر عن أعمارهم، القراءة نشاط يختاره الفرد وفقاً لميوله، وقد تكون قراءة رواية بالنسبة للبعض تجربة مريحة ومثيرة للتفكير بقدر ما تكون قراءة القرآن تجربة روحانية مهمة.
الختامة
إن احترام كبار السن وإعطائهم المكانة التي يستحقونها في المجتمع ليس مجرد واجب أخلاقي، بل هو حاجة ملحّة لبناء مجتمع متوازن وقوي، على أفراد المجتمع أن يُدركوا أن هؤلاء المسنين ليسوا عبئاً أو أميين يجب أن يُنظر إليهم بعين الشفقة أو الاستغراب، بل هم أفراد لديهم تجارب حياتية غنية، وعقول لا تزال قادرة على التعلم والإبداع، إن تغيير هذه النظرة السلبية تجاه كبار السن يبدأ من الفرد ويمتد إلى المجتمع ككل، ويحتاج إلى إعادة برمجة لمفاهيمنا الثقافية والاجتماعية.
حمدان بن هاشل بن علي العدوي / عضو الجمعية العمانية للكتاب والأدباء