حتى وقت كتابة هذه السطور ، كانت الحرب على جبهة لبنان لا تزال فى مرحلة القصف الجوى العنيف غير المسبوق فى ضراوته ، آلاف الغارات شنها ويشنها الطيران الحربى “الإسرائيلى” على جغرافيا الحاضنة الشيعية لحزب الله ، من الجنوب ومناطق الليطانى وصور وصيدا والبقاع وصولا إلى ضاحية بيروت الجنوبية ، ثم زاد مدى الغارات إلى منطقة “كسروان” فى جبل لبنان شمال بيروت ، وإلى عمق زاد على 120 كيلومترا شمال خط الحدود ، فى الوقت الذى زاد فيه “حزب الله” من مدى ضرباته الصاروخية ، وإلى أن استهدف مقر “الموساد” فى ضواحى “تل أبيب” بالصاروخ الباليستى “قادر ـ 1″ ، قبلها كان الحزب انتقل بعد ” الكاتيوشا” والمسيرات لمرحلة استخدام سلسلة صواريخ “فادى” فى كل مناطق شمال فلسطين المحتلة ، من خط الحدود فى الجولان وإصبع الجليل إلى الجليل الأعلى والأسفل وصفد وإلى حيفا وما بعدها ، وركز بالذات على استهداف قواعد ومطارات ومصانع عسكرية ، ولم يعلن العدو عن خسائر سوى هدم عشرات المبانى واندلاع حرائق وإصابة العشرات ، بينما كان عبء الضحايا ثقيلا على الجانب اللبنانى ، حيث ارتقى مئات الشهداء وأصيب الألاف فى أيام ، كان أغلبهم من المدنيين والنساء والأطفال ، واستشهد العشرات من عناصر حزب الله ، بينهم قادة كبار فى منطقة الضاحية الجنوبية بالذات ، وبغارات نفذتها طائرات “إف ـ 35” الأمريكية الشبحية بقنابل ثقيلة خارقة للتحصينات ، وبناء على معلومات مفصلة وخرائط عالية الدقة .
وقد لا نكون انتقلنا بعد إلى مرحلة الحرب الشاملة على الجبهة اللبنانية ، فالعدو “الإسرائيلى” الأمريكى يتصور إلى اليوم ، أن الحملة الجوية المدمرة قد تؤتى ثمارها بغير حاجة إلى اجتياح برى ، وأن الاجتياح الجوى واغتيالات قادة حزب الله بالجملة قد تخضع قيادة حزب الله ، وتدفعه لفك الارتباط مع جبهة “غزة” ، وبالذات مع اتضاح حقيقة الخرق المفزع لجهاز الحزب العسكرى ، ونجاح العدو على مدى ما يقرب من عام كامل فى اصطياد مئات من كوادر حزب الله ، وتصفية قادة كبار ، من “فؤاد شكر” إلى “إبراهيم عقيل” إلى “إبراهيم القبيسى” وغيرهم كثير ، مع اضطراب ظاهر فى خطط تأمين القيادات العليا للحزب وكوادره وبيئته اللصيقة ، وهو ما تبدى صادما قبل الحملة الجوية الأعنف ، فى تفجيرات “البيجر” و”الووكى توكى” التى أصيب فيها الآلاف بدقائق ، ومع التسليم بوجود خرق فادح ، وغياب فرصة التطهير الشامل لبؤر الجواسيس والعملاء ، مع تطورات دخول الحزب فى مرحلة التحدى الحربى ، الذى سقط فيه حتى اليوم ما يقارب نصف مجموع الضحايا اللبنانيين فى حرب يوليو “تموز” 2006 ، التى استمرت وقتها لما يزيد على شهر ، ولم ينتصر الحزب وقتها ، إلا بملاحم القتال وجها لوجه وتدمير دبابات “الميركافا” فى “مارون الراس” وغيرها ، وتدمير فرقاطة “إسرائيلية” من طراز “ساعر” فى عرض البحر ، وبدء استخدام النسخ الأولى من صواريخ “فادى” فى قصف ميناء حيفا وقتها ، انتصر الحزب حينها أساسا بعبقرية قتال عناصره فى المواجهات البرية المباشرة ، واضطر العدو للانسحاب من الجنوب اللبنانى ، رغم أن القصف الجوى “الإسرائيلى” ، كان قد دمر وقتها كل مبانى الضاحية الجنوبية تقريبا ، وارتقى ما يزيد على 1500 شهيد ، وهو ما يتكرر اليوم بتتابع وحشى أسرع وأعنف بمراحل ، يصعب توقع أن يحقق الهدف المراد “إسرائيليا” ، وأن يخضع إرادة حزب الله ، الذى دلت حوادث الأيام الأخيرة على شناعة ما جرى فيها ، أن الحزب لا يزال يحتفظ بشبكة اتصالاته الداخلية سليمة غالبا ، ولا يزال نظام القيادة والسيطرة وتسلسل الأوامر يعمل بكفاءة ، ولا يزال يحتفظ بأغلب ترسانته الصاروخية الضخمة عبر تضاريس “طوبوجرافيا” توفر قدرا هائلا من الحماية والتحصين ضد غارات العدو ، المنتشى بضربات ثقيلة وجهها لقوات وقادة حزب الله ، وإلى حد الزعم “السياسى” بتدمير نصف القوة الصاروخية للحزب ، وهو القول الذى سارع الجيش “الإسرائيلى” نفسه إلى نفيه ، واكتفى الجنرال “يوآف جالانت” وزير الحرب “الإسرائيلى” بعبارة عامة ، تفيد أن حزب الله صار أضعف مما كان عليه قبل أسبوع ، وقد يكون ذلك صحيحا إلى حد ما ، لكنه لا يعنى بالضرورة ، أنه قد يكون بوسع “إسرائيل” تدمير حزب الله ، رغم مزاعم عن تدمير “إسرائيل” لآلاف المنصات الصاروخية ، فلا يزال الحزب قادرا على إطلاق مئات متزايدة من الصواريخ يوميا تحت القصف الجوى “الإسرائيلى” الكثيف المتصل ، ولا تزال إشارات السلوك الحربى للحزب موحية بتخطيط مقصود ، وبأهداف يمكن استنتاجها ، فقيادة الحزب لا تسعى إلى استعجال القفز إلى حرب شاملة ، والتدرج يبدو ظاهرا فى قرارات الميدان ، وفى مدى وصول الصواريخ ، وقد كان فى حدود عشرين كيلومترا على الجانبين قبل التوسع الأخير ، الذى زاد فيه مدى وصول الصواريخ إلى أربعين كيلومترا ثم إلى ستين كيلومترا ، زادت فى حالة صاروخ “قادر” إلى ما يزيد على مئة كيلومتر ، ومن دون استخدام الصواريخ الموجهة الدقيقة المخزونه فى أنفاق الجبال حتى الآن ، فقيادة حزب الله تديرحساباتها بدقة وحذر ، وتدرك المزايا النوعية التى يملكها العدو فى ميدان القصف الجوى وفوارق التفوق التكنولوجى ، وتسعى للحد قدر الإمكان من خسائرلبنان البشرية بصواريخ وقنابل القصف الارتجاجية الزلزالية ، وتعرف أن زيادة مدى وصول صواريخها تنطوى على معانى رمزية وواقعية ، وضعت حتى اليوم أكثر من مليون و200 ألف مستوطن “إسرائيلى” فى دائرة الخطر ، مع التركيز على القواعد العسكرية “الإسرائيلية” دون تجمعات المدنيين ، كما جرى فى استهداف مطار وقاعدة “رامات ديفيد” و”ميرون” و”مجيدو” وقاعدة “حيفا” البحرية ومنشآت شركة “رافائيل” للصناعات الحربية الإلكترونية ومقر “الموساد” فى تل أبيب وغيره ، وقد تكون المقدرة التدميرية للصواريخ المستخدمة محدودة ، لكنها تثير الذعر عند مئات الآلاف فى جهات متسعة داخل الكيان المحتل ، خاصة مع إطلاق الحزب لصواريخ تستهدف مستوطنات يهودية فى الضفة الغربية ، وبما دفع العدو إلى إعلان حالة طوارئ عامة فى كامل الكيان ، وزيادة الضغوط “الشعبية” على جيش الاحتلال ، ودفعه إلى خطوة الغزو البرى للأراضى اللبنانية ، وهو ما تنتظره قيادة حزب الله ، فهو يوفر لها حالة دفاعية محضة من زاوية الحساب السياسى ، ويوفر فرصة القتال المتلاحم ، وإنزال الخسائر البشرية الثقيلة بضباط وجنود الاحتلال ، وتدمير أكبر عدد ممكن من مدرعات ودبابات العدو ، وهو ما يتخوف منه جيش العدو قياسا على تجربة 2006 ، مع الأخذ فى الاعتبار ما جرى من تطور هائل فى قدرات حزب الله ، وفى خبرات وتدريب مقاتليه من قوات النخبة المعروفة باسم “وحدة الرضوان” ، التى قد يقال أنها ضعفت بعد اغتيال عدد من قادتها الكبار أخيرا ، وتلك انطباعات مخادعة ، يروجها “الإسرائيليون” والمتحيزون لهم من الناطقين باللغة العربية ، مع أن التجارب تلو التجارب ، انتهت إلى حقيقة باهرة ، هى أن اغتيال القيادات فى تنظيمات المقاومة الجديدة ، لم يؤد أبدا إلى إضعاف تنظيماتها ذات الطابع الإيمانى ، التى تحتفل بالشهادة كوسام إلهى ، وصنعت تنظيماتها على نحو فريد ، لا يترك فراغا مع نزول المحن ، وكل قيادى ، وعلى أى مستوى ، له بديله ونائبه المؤهل ، الذى يستلم المسئولية فورا وتلقائيا ، ومن دون احتياج لانتظارقرارات تعيين جديدة تصدر عن القيادة المركزية ، ثم أن تنظيمات حزب الله تعمل على نحو لا مركزى ، يتصرف فيه قادة الوحدات فى ضوء توجيهات عليا ثابتة ، توازن وتكيف سلطة القرار مع أولويات الميدان ، وإلى وقت الانتقال لانفجار الحرب الشاملة ، وبالذات مع الغزو البرى ، الذى تسعى قيادة حزب الله لاستدراج العدو إليه ، وتسقط كل التقييدات الموقوتة على استخدام كافة الأسلحة .
وفى حسابات الميدان بالجملة ، قد نشهد تدرجا مدروسا فى استخدام حزب الله لصواريخه ، وفى إطالة المدى ونوعية المقذوفات ، والانتقال من صواريخ الإصابة “المساحية” العشوائية نوعا ما ، إلى صواريخ الإصابات “النقطية ” الأعلى دقة ، مع دوام الحرص على استعادة حالة توازن الردع قدر الإمكان ، وتوفير الصواريخ الأوسع والأدق تدميرا إلى مراحل متطورة فى الحرب ، مع الاستمرار فى تنفيذ خطط حساب الدم المفتوح المسفوح مع العدو ، وإلى أن تحين لحظة استخدام كل الأسلحة ، التى تربطها قيادة حزب الله بوقت انزلاق العدو إلى غزو برى ، قد تجد “إسرائيل” نفسها مضطرة مندفعة إليه فى النهاية ، إن هى أرادت تحقيق هدف إعادة “سكان الشمال” إلى منازلهم ، وهو ما تعهد حزب الله أنه لن يحدث أبدا قبل وقف العدوان على “غزة” ، لا بالاجتياح الجوى ولا بالاجتياح البرى ، وما بينهما من حوادث دامية تصدمنا بها الصور المنقولة على مدار الساعات اللاهثة .
عبدالحليم قنديل