هل كانت مصادفةً أن يتوقف على القلب على قوله: (وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنٗا ( من١٠٣) آل عمران)، ويبحر الفكر في كلمتين عظيمتين أوردهما الله سبحانه تحديثا بنعمته الكبرى على الأمة الإسلامية؛ ألفة القلوب وأخوة العقيدة؟!…
ربما كانت تحضيرا وإرهاصا بهذا اليوم الذي صدق فيه السيد حسن نصر الله قولَه فعلُه، فترجل عن صهوة جياده، ليموت في عرينه مستشهدا على طريق تحرير القدس، وضمن معركة الأقصى، والتي دخلها منذ اليوم التالي للسابع من أكتوبر، وكان قادرا أن يكتفي بالشجب والبيانات كما اكتفت الدول والجيوش الإسلامية وحكامها عموما، فضلا عن تلك التي نزلت دركةً سفلى بالتعاون مع المحتل بكل بجاحة ضد أشراف الأمة في المقاومة، فيسلمَ من الموت ومن التشريد، إلا أنه قد صرح مرارا أنه لن يتراجع عن إسناد غزة وفلسطين مهما بلغت التضحيات، وقد بلغ الثمن أن جاد بروحه في سبيل قضية المسلمين جميعا، بل قضية العالم، قضية الحق والباطل، قضية الإنسانية والإنسان، قضية فلسطين والقدس.
لقد استطاع رجال الله في محمور المقاومة التعالي على كل أسباب الشقاق من مذهبية وعصبية، والارتقاء إلى الإسلام النقي، وعيش معنى ألفة القلوب، وإخوة الإسلام، اللذين امتنهما الله نعمةً على أمة الإسلام، قبل ظهور الطوائف والمذاهب بأمد بعيد، وحذر من فقدهما، أو الاستهانة بهما… وقد ساندههم إخوانهم من شتى المذاهب عربا وعجما في بلدان المسلمين المختلفة، فكانوا معهم في مدارج الآمال ومعارج الكمال الذي ارتقوه ببركة راية التوحيد، وسنة الرسول وصحابته صلى الله عليهم وسلم أجمعين، إلا من شذ ممن استمرأ خيانة الأمة منذ نشأته، خانها من النقيض إلى النقيض، واليوم يشمت في موت موحد مسلم، ويفرح بإرهاب صهيوني مجرم.
إن دوائرَ ما كان عليه المصطفى عليه السلام وصحابته الأطهار، وما يحكيه عنهم القرآن الكريم من مواقف وأحداث تتجلى في أحداث اليوم وسياقاته، تجليَ القرآن في عظمته وبيانه، فهناك دائرة المصطفى وصحابته، الذين أخذوا على عاتقهم نشر رسالة التوحيد ومحاربة الأوثان وعبادها، ونصرة المستضعفين: (وَمَا لَكُمۡ لَا تُقَٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلۡوِلۡدَٰنِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخۡرِجۡنَا مِنۡ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةِ ٱلظَّالِمِ أَهۡلُهَا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّٗا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا (٧٥) النساء)، ودائرة المنافقين، الذين حظهم من هذا المقام الشريف النيل من المجاهدين، والتسفيه بهم، والفرح بمصابهم، والتهوين من نصرهم، (إِن تَمۡسَسۡكُمۡ حَسَنَةٞ تَسُؤۡهُمۡ وَإِن تُصِبۡكُمۡ سَيِّئَةٞ يَفۡرَحُواْ بِهَاۖ (١٢٠) آل عمران)، والذين يتولون الكافرين من دون المؤمنين (ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۚ (١٣٩) النساء)، ودائرة الجبناء الذين يركنون إلى الدعة ولو على مذلةٍ وخزيٍ وعار، (ألم تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمۡ كُفُّوٓاْ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقِتَالُ إِذَا فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَخۡشَوۡنَ ٱلنَّاسَ كَخَشۡيَةِ ٱللَّهِ أَوۡ أَشَدَّ خَشۡيَةٗۚ وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبۡتَ عَلَيۡنَا ٱلۡقِتَالَ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنَآ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖۗ قُلۡ مَتَٰعُ ٱلدُّنۡيَا قَلِيلٞ وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلَا تُظۡلَمُونَ فَتِيلًا (٧٧) النساء ) وقد قالت لهم قضية المسلمين الأولى، قضية القدس وفلسطين، “حي على الجهاد والتحرير”، فآثروا الدعة على ذلةٍ ومهانةٍ، وملأ البطونِ والركونَ بزعم الاقتصاد على خنوعٍ وخزي، ولم يكتفوا بذلك بل نعتوا من يطلب حقه ويدافع عن أرضه وعرضه -وقد قعدوا هم عن الواجب- نعتوهم بالمخربين والمغامرين، وتعاونوا في غير موقف على دعم العدو في محاربتهم له، بكل بجاحة وقبح …
إذن فلينظر الواحد منا في أي دائرة يقع من هذه الدوائر ثم ليقرأ مآل كل دائرة في سور القرآن، ولا شك أن المؤمن الصادق سيختار الدائرة الأولى التي عليها كان الرسول صلى الله عليهم وسلم وصحابته رضوان الله عليهم، والتي عليها اليوم محور المقاومة الشريف بالتعالي على أسباب تفريقهم، والتمسك بأسباب ما يرقيهم للحفاظ على نعمة ربهم عليهم، ألفةً لقلوبهم، وأخوةً لأرواحهم، على طريق المجاهدين المقاومين الشرفاء، الذين امتنّ الله عليهم أن يكونوا على نهج الرسول وصحابته في ألفتهم وأخوتهم، فتساموا وتعالوا على المذهبيات والحزازيات والقوميات والعصبيات، إذ هي من أبواب الشيطان الكبرى عليهم، وقد أوصدوها بفضل ربهم، وجعلوها تحت أقدامهم.
ربما تجب الشهادة في سياق الجواب على الدائرة الثانية وطعنهم في حزب الله عموما ونصر الله خصوصا أن تدخل الحزب في سوريا كان تدخلا متأخرا على تدخل الخليج وتركيا والغرب، ونشأة داعش والنصرة وغيرها من الحركات الإرهابية والمخابراتية الصهيونية، وكان تدخله واجبا، وجاء بعد سنتين من بداية الحدث بعد ما اقترب الجماعات من حدود لبنان، ولو كان تدخله مذهبيا لتدخل من أول الأحداث في سوريا، ولتردد في تدخله مع غزة في فلسطين، ولكن كلا تدخليه كانت بوصلته المقاومة وقضية فلسطين، فتدخله في سوريا المتأخر جاء لإحباط محاولة محاصرة المقاومة، و إخراج سوريا من محورها، مما يضعف بوصلة تحرير فلسطين، والثاني في مساندة غزة ودعمها لتحرير ترابها وأسراها.
إن على المسلمين اليوم اختيار إحدى الدوائر الثلاث، وعلى الشامتين في مقتل الأمين العام لحزب الله من باب طائفي عصبي، أو عبادةً لأولياء أمورهم المتصهينين من دون الله وتزلفا لهم أن يحذروا، لعل الله يحميهم من شقاء ما تلغ فيه ألسنتهم، وتتلقاه أفواههم، وتنقر به أصابعهم.
أخيرا رسالتي للأمة الإسلامية عامة وللمجاهدين على الثغور في المقاومة في لبنان وفلسطين واليمن والعراق خاصة هي رسالة الله في كتابه: (وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ (١٣٩) إِن يَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحٞ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحٞ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَمۡحَقَ ٱلۡكَٰفِرِينَ (١٤١) أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمۡ وَيَعۡلَمَ ٱلصَّٰبِرِينَ (١٤٢))…
فسيروا واصبروا وصابروا ورابطوا… ولتكن دماءُ الشهداء البررة، الذين صدقوا الله ما وعدوه، فامتزجت على طريق تحرير القدس في غزة ولبنان واليمن، لتكن دماؤهم لكم شعلة تضيء لكم العتمة، ووقودا نافذا تزدادون به صلابة وعنفوانا، فقد فرح الكيان المجرم يوم اغتال الامين العام السابق للحزب السيد عباس الموسوي سنة ١٩٩٢ م، فقال إعلامه: (انتهى عهد الصراع مع حزب الله في الملعب المريح له)، فجاء السيد حسن نصر الله وقاد الدفة لاثنتين وثلاثين سنة، ووصل الحزب في قوته مدى كريما، وصواريخه ضربت تل الربيع (تل أبيب) وما بعدها، واليوم سيخلف نصر الله قائدٌ سيكمل المسيرة، وسيكون تحرير القدس في عهده، وله في تحريره يد ووسيلة، كما خلف الشيخ أحمدَ ياسين قادةٌ عظامٌ وصلوا إلى السنوار، لم يقلوا عنه في البأس والشدة والعزيمة.
(وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ (٣٠) الأنفال)
عبد الحميد بن حميد بن عبد الله الجامعي
الأحد
٢٥ ربيع الأول ١٤٤٦ هـ
٢٩ سبتمبر ٢٠٢٤ م