صدق الزعيم جمال عبد الناصر عندما قال: “لن يغفر لي الأمريكيون ما فعلتُه معهم.. حيًّا أو ميتًّا”؛ فلم يتعرّض شخص مثلما تعرّض له عبد الناصر من حملات تشويه في حياته وبعد مماته، من خلال حملة منظمة من المخابرات الأمريكية والغربية والصهيونية ومن أبواق الأنظمة العربية الرجعية، التي رأت في نزاهة الرجل ومشروعه القومي خطورةً عليها. بدأت تلك الحملات في حياة عبد الناصر ولم تقف حتى اللحظة، رغم غيابه عن العالم منذ 54 عامًا. قاد حملة التشويه في البداية ضابط المخابرات الأمريكية مايلز كوبلاند الذي أصدر كتابًا سماه “لعبة الأمم” صدر عام 1969، أي قبل وفاة عبد الناصر بعام، والغريبُ في الأمر أنّه رغم صدور الكتاب قبل 53 عامًا، إلا أنه طُبع من جديد عدةَ مرات ومن عدة دور نشر، بعد أن موّلت إحدى الدول العربية تأليفه وتكاليف طباعته للمرة الأولى، بهدف قتل عبد الناصر معنويًا.
هدفت حملة التشويه تحويل كلّ إنجازات الرجل إلى فشل، ولم تر فيه حسنة واحدة؛ فوصفوه بأنه دكتاتور وطاغوت وهُبل وغيرها من الألقاب، وحمّله بعض العمانيين مسؤولية الانقلاب الذي أطاح بالحكم العماني في زنجبار، فيما قال آخرون عن والدته إنها يهودية وإنّ زوجته فارسية وكثيرًا من الخزعبلات مثل هذه، حتى وصل الأمر إلى أن تعنون صحيفة عربية ذات عام صفحتها الرئيسية بعنوان عريض يقول: “جمال عبد الناصر كافرٌ بإجماع الأمة”. ولكي تعطي الصحيفة لنفسها المصداقية نشرت في الصفحة الداخلية من تقريرها ذاك، أنّ “علماء مصر يفتون بكفر عبد الناصر.. جمال عبد الناصر كافرٌ بنص القرآن والسنّة وإجماع الفقهاء والأئمة”، واعتبرت أنّ قتال عبد الناصر “فرض على كلِّ مسلم ومسلمة”. وهكذا ضحك الإعلام والشيوخ على العوام باستخدام كلمة “إجماع الفقهاء والأئمة”، وهي عبارة فضفاضة لا تُستخدم إلا بهدف التأثير على السذج، ولا يمكن أن يجمع هؤلاء الفقهاء على مسألة واحدة، ولم يحدث هذا عبر التاريخ الإسلامي كله.
ربما يستطيع المرء أن يفهم أن يقال عن عبد الناصر كافر وزنديق وشيوعي واشتراكي وغير ذلك – رغم بشاعة هذه الافتراءات وكذبها – بل ويعتاده؛ فالأمر يعود لفكر وموقف قائله، ولكن أن يُفبرَك فيديو بأنّ عبد الناصر التقى بإسحاق رابين وديفيد بن جوريون، فهذه كبيرة، وبالعبارة العامية “عودة واجد” ولا يتقبلها العقل الصحيح؛ فمع ذكرى وفاة الرجل (توفي في 28 سبتمبر 1970) تداولت حسابات على موقع “إكس” مقطع فيديو، يزعم أنه لقاء بين الرئيس عبد الناصر ورئيس وزراء إسرائيل الراحل إسحق رابين في نيويورك عام 1956، وأرفقت الفيديو بتعليق: “هذا مقطع بسيط مسرّب من لقاء عبد الناصر زعيم الأمة كما يسمونه مع إسحق رابين وبن جوريون. ويتحدث معهم بحرية”، وطالب التعليق من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بنشر الأرشيف الوطني المصري “بدلًا من اعتمادنا على الوثائق الأمريكية. نحن نريد أن نشاهد الأرشيف الوطني المصري بخيره وشره كما حدث، كي تتعلم منه الأجيال القادمة”، والتعليقُ يشير إلى أنّ المقطع من الوثائق الأمريكية، رغم أنه مجهول المصدر.
للرد على مقطع اللقاء المزعوم، نشرت صحيفة “النهار العربي” تحليلًا كاملًا عن الموضوع بتاريخ 15 سبتمبر 2024، بقلم إبراهيم عرفات الذي تتبع الصور المنشورة في الفيديو؛ وتحت عنوان “النّهار العربي دقّق من أجلكم”، أشارت الصحيفة إلى أنّ البحث كشف أنّ هذا الزعم غير صحيح تمامًا؛ إذ يُصور الفيديو لقاء جمع الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر والأمين العام للأمم المتحدة الراحل داغ همرشولد في ديسمبر 1956، وليس إسحق رابين، كما زعمت الحسابات على إكس. والصورة منشورة في موقع منظمة الأمم المتحدة بعد اللقاء بشهر وجاء في وصفها: “الأمين العام داغ همرشولد (إلى اليسار) والرئيس المصري جمال عبد الناصر في صورة التقطت خلال المحادثات التي عقداها في القاهرة الشهر الماضي”. وعن أهداف ذلك اللقاء ذكر موقع الأمم المتحدة حينها: “في سياق هذه المحادثات طلبت الحكومة المصرية مساعدة الأمم المتحدة في تطهير قناة السويس، وأن تبدأ هذه المساعدة فور عودة الأوضاع الطبيعية في بورسعيد ومنطقة القناة، بما في ذلك انسحاب القوات غير المصرية”.
وتشير الصحيفة إلى أنّ الصورة التي زعم أنها لاجتماع عبد الناصر ورابين، نشرت أيضًا في أرشيف الأمين العام الراحل للمنظمة الأممية، الخاص بتأسيسه أول قوة لحفظ السلام.
والحقيقة المؤكدة حسب “النهار العربي”، فإنّ إسحق رابين لم يكن له، خلال هذه الفترة (1956-1959)، أيّ دور أو منصب سياسي، إذ كان يترأس القيادة الشمالية للجيش الإسرائيلي، ومن 1959 إلى 1963 شغل منصب رئيس مديرية العمليات في جيش الاحتلال الإسرائيلي ونائب رئيس الأركان، ومن 1964 إلى 1968 رئيس الأركان العامة، وبعد تقاعده من الجيش الإسرائيلي، عُيّن سفيرًا لإسرائيل في واشنطن.
والخلاصة إذن – كما ذكرنا – هي أنّ الفيديو يعود إلى لقاء الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وداغ همرشولد، الأمين العام الراحل للأمم المتحدة في عام 1956، على خلفية أزمة تأميم قناة السويس، وليس له أيّ صلة برابين، كما أنّ زيارة عبد الناصر للأمم المتحدة كانت في عام 1960، وليس 1956. نقول ذلك، ونحن نشدد على أنّ عبد الناصر ليس فوق النقد – لا هو ولا أيّ حاكم آخر عبر التاريخ – إلا أنّ التزوير بهدف تشويه السمعة يجب أن يُرفض من الجميع؛ ففي مسيرته حاول عبد الناصر فنجح وأخفق وأصاب وأخطأ، لكنه كان وطنيًّا مخلصًا لأمته، وصنع لمصر قيمة في الوطن العربي، وصنع قيمة للوطن العربي في العالم، وفي عهده كان الكيان الصهيوني معزولًا في الوطن العربي، وشبه معزول في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية.
لا يبدو أنّ نشر الفيديو الملفق في هذا الوقت جاء اعتباطًا؛ فهو ضمن حملة تشويه الرجل، ليس بصفته الشخصية، ولكن لتشويه الرمزية التي مثلها، مثل مقاومة الاستعمار، ورفض الكيان الصهيوني في المنطقة. ويقينًا أنّ من يقف وراء تلك الحملة، هم أنفسهم الذين يهرولون لمشروع “الشرق الأوسط الكبير”، الذي يهدف إلى تسليم زمام قيادة المنطقة للكيان الصهيوني. ولكن هل ستقف حملة التشويه إلى هذا الحد فقط؟! لن تقف وستستمر ما دامت المنطقة مقبلة إلى تطبيق خطط “الشرق الأوسط الكبير” و”اتفاقيات إبراهام”، وفي كلّ الأحوال فإنها تفتقد إلى الموضوعية، لأنها تتجه إلى الشخصنة، لكن الرجل (عبد الناصر) لم يعطهم الفرصة لذلك لأنه كان نظيفًا.
ورغم رحيله بما يزيد عن نصف قرن، ورغم الحملات الكثيرة لتشويهه، ما زال عبد الناصر حيًّا في قلوب الأحرار كرمز للنضال والتحرر، ليس فقط في الوطن العربي؛ بل في العالم. وعندما أشاهد خطابه في الأمم المتحدة، الذي ألقاه في أكتوبر عام 1960 في الدورة الخامسة عشرة المسماة بـ “دورة الرؤساء”، وأشاهدُ تلك الحفاوة التي استُقبل بها وذلك التصفيق الحار من قادة دول العالم، أعرفُ إلى أيِّ مدى كان العالم يحترم الرجل، وكثيرًا ما تساءلتُ مع نفسي: من أين استمدّ الرجل هذه الشعبية الطاغية؟ ولماذا لم نر خلال 64 عامًا الماضية تصفيقًا لأيِّ رئيس عربي آخر في الأمم المتحدة مثل ذلك التصفيق؟
زاهر المحروقي / كاتب عماني مهتم بالشأن العربي ومؤلف كتاب «الطريق إلى القدس»