مع بدء الازدحام المروري في شارع السُّلطان قابوس وشارع مسقط السَّريع في محافظة مسقط بدوامات طلبة الجامعات ومؤسَّسات التَّعليم العالي بعد فترة إجازة صيفيَّة، عزَّزت من انسيابيَّة الحركة المروريَّة، إلَّا أنَّ الفترةَ القادمة سوف تشهد كثافة مروريَّة كبيرة، ورغم الوعود الَّتي قدَّمتها بلديَّة مسقط بشأن توسعة بعض الشَّوارع الوطنيَّة وشوارع الخدمات والاختصارات وغيرها، إلَّا أنَّ إنجازها ما زال خارج التَّغطية. ومع كُلِّ ذلك وكما تُشير التَّقارير المروريَّة إلى أنَّ المسألة المروريَّة تتفاعل فيها جملة من الأجندة، من حيث الشَّارع وحجم المنحنيات فيه والعوامل البيئيَّة، والمَركبة وصيانتها، يأتي دَوْر العنصر البَشَري كأهمِّها على الإطلاق، وأنَّ ما يزيد على (70%) من حوادث السَّير ومسبِّبات الازدحام المروري تعودُ إلى الفرد مستخدم الطَّريق، وطريقة تعامله مع الحالة المروريَّة وتتلاشى كما اقترب فعل مستخدم الطَّريق من النّموذج الأخلاقي للسُّلوك المروري في استخدام الطَّريق، الأمْرُ الَّذي ينقلُ المسألة المروريَّة إلى الإنسانيَّة المُعزَّزة بالقِيَم والمبادئ وأخلاقيَّات الطَّريق.
عَلَيْه، فإنَّ الحديث عن الثَّقافة المروريَّة ومُحدِّدات السَّلامة على الطَّريق في إطار جملة المُتغيِّرات والعوامل الَّتي أشَرنا إلى بعضها، والمتوقَّع أنْ تُشكِّلَ أرضيَّة لبناء ثقافة مروريَّة متوازنة في واقع الحياة اليوميَّة لمستخدم الطَّريق، يضعنا أمام فِقه احترام الدَّوْر والالتزام المروري كأحَد معايير تحقيق هذه الثَّقافة وتعظيم مفهوم السَّلامة على الطَّريق، فإذا كانت الثَّقافة المروريَّة تتشكَّل من جملة القواعد والأنظمة والقِيَم والأخلاقيَّات والقناعات والأفكار الَّتي يؤمن بها مستخدم الطَّريق ويلتزمها نهجًا أصيلًا له باختيار ورغبة واقتناع وبما يفرضه عَلَيْه قانون المرور والقوانين والأنظمة والإجراءات ذات الصِّلة بمُحدِّدات السُّلوك والذَّوق المروري العامِّ وأخلاقيَّات الطَّريق، فإنَّ ثقافة احترام الدَّوْر تأتي ترجمة عمليَّة لهذه الثَّقافة وما يرتبط بها من موَجِّهات ومحكَّات وتقييمات وأخلاقيَّات وممارسات يجِبُ أن يسلكَ فيها مستخدم الطَّريق مسالك القوَّة والاحترافيَّة والصِّدق وينأَى بها عن سيِّء العادات وكومة التَّراكمات والممارسات المروريَّة السلبيَّة.
إنَّ ثقافة احترام الدَّوْر بذلك، المُحرِّك الأساس لكُلِّ القناعات والظَّواهر الَّتي تتفاعل مع شخصيَّة السَّائق ومستخدم الطَّريق، والصُّورة الذِّهنيَّة المُجسِّدة لهَا في العقل الباطني اللاواعي بحيث تُشكِّل انعكاسًا لكُلِّ الممارسات القادمة، وكُلَّما أدركَ مستخدم الطَّريق مسؤوليَّته في احترام الأدوار، وأولويَّة الآخرين وحقَّهم المكتسب في ظلِّ طبيعة الموقف المروري، الَّذي يجِبُ أن يمارسَه بمهنيَّة واحترافيَّة ومسؤوليَّة كواجبٍ أصيل عَلَيْه في ظلِّ استشعارٍ لمسؤوليَّته نَحْوَه، انعكس ذلك إيجابًا على استخدامه للطَّريق وتعامله مع المنغِّصات والمفاجآت والظَّواهر الطَّارئة بما تتطلبه من التزام بها، وفهْمٍ لقواعدها، وإدراكٍ لمقتضياتها ومعرفة بالمواقف الَّتي تستدعي مِنْه حُسن التَّصرُّف وحكمة الاختيار، وفي ظلِّ ما يعايشه مستخدم الطَّريق من أحداث ومتغيِّرات ومواقف، تتطلب مِنْه استيعابًا وفهمًا لمعانيها وغاياتها، كما تتطلب مِنْه حزمًا في أحيانٍ، ولِينًا ومرونةً في أحيانٍ أخرى. ومعنى ذلك أنَّ مفهوم احترام الدَّوْر ينبغي أن يتحوَّلَ من كونه حالةً وقتيَّة أو سلوكًا مزاجيًّا، يمارسه مستخدم الطَّريق كُلَّما وجد الفرصة الشَّخصيَّة مناسبةً والوضع المروري مهيَّأً أو يمارسه خوفًا من العقاب ووقوفًا عند رقابة رجُل المرور، فيتعامل معه بأريحيَّة في وقتِ انسيابيَّة الحركة بَيْنَما يتجاوزه ويضرب به عُرض الحائط في الأوقات العصيبة، لذلك فهو بحاجةٍ إلى مزيدٍ من الصَّبر والجَلَد والحرص والالتزام والثِّقة وطول النَّفَس واحتواء المواقف وإدارة السُّلوك المروري وضبطه، بحيث يكُونُ التزامه نابعًا من ثقته بقِيمة احترام الدَّوْر والَّذي يُمثِّل انعكاسًا لسُلوكِه وشخصيَّته كسائقِ مَركبة ومستخدمٍ للطَّريق.
عَلَيْه، فإنَّ ثقافة احترام الدَّوْر والالتزام به دليلُ وعيِ المُجتمع، وقمَّة تحضُّر أفراده، ونُضج فهْمِهم لمتطلَّبات السَّلامة على الطَّريق، وشعورهم بأحقيَّة الآخر الَّذي يسبقهم في الوصول إلى مقصده أو أهدافه، ودليل وجود الحسِّ المسؤول من قِبل الفرد، والشُّعور بقِيمة الرِّسالة الَّتي يحملها مستخدم الطَّريق، بل هو السَّبيل لزيادة روح التَّعاون والتَّواصُل والمَحبَّة بَيْنَ أفراد المُجتمع في أحلكِ الظُّروف والمواقف، وهو تعبيرٌ عن مساحة الإيثار الَّتي تتأسَّس في شخصيَّة مستخدم الطَّريق والقِيمة المُضافة النَّاتجة من التزامه، وتبقى بعض الممارسات الَّتي باتَتْ ظاهرةً اليوم في أثناء الازدحام والكثافة المروريَّة، محطَّة للتَّقييم والمراجعة وتَبنِّي سياسات مروريَّة قادرة على ضبط هذا الأمْرِ بطريقةٍ مهنيَّة تحقيقًا للتَّوازنات المروريَّة، فإنَّ ثقافة الالتزام بالدَّوْر قَبل أن تحكمَها الأنظمة واللَّوائح والقوانين الموضوعة في هذا الجانب من قِبل المؤسَّسات، ينبغي أن يضبطَها سلوك الفرد ويقتنع بها، بحيث تُمثِّل لدَيْه ممارسة قِيَميَّة أصيلة منذُ خروجه من سكنِه إلى مقرِّ عملِه والعكس، وسلوكًا يؤمِن به ويُنافِس فيه غيره؛ ويصبح خلالها نموذجًا وقدوةً للآخرين في الحصول على حقِّهم المروري.
على أنَّ ما يُشير إِلَيْه واقع الممارسة المروريَّة من قُصور في وعي مستخدمي الطَّريق بثقافة احترام الدَّوْر وأهميَّته وكيفيَّة تطبيقه بالشَّكل السَّليم، في ظلِّ حجمِ التَّجاوزات الَّتي باتَتْ تتقاطع مع مفهوم احترام الدَّوْر والالتزام به، وفي وقت الازدحام والاختناق المروري وإغلاق كُلِّ خطوط السَّير، تجدُ البعض ينتصرون لأنانيَّتهم ويكسرون حاجز الاحترام بتصرُّفاتهم الرَّعناء وتجاوزاتهم الهوجاء والخروج عن المسار الصَّحيح، وإسقاط كُلِّ معاني الإيثار والاحترام والمسؤوليَّة وفضيلة الانتظار، فلا ينتظر مرور من هو قَبله، لذا يتجاوز من أكتاف الطَّريق، أو يتحيَّن أيَّ فرجةٍ في مسار الطَّريق لِينزلقَ للخارجِ فيسابقَ مَن قَبله في الوصول إلى نقطة أخرى قادمة كالدّوارات أو الإشارات الضوئيَّة أو مداخل ومخارج أخرى، الأمْرُ الَّذي يؤدِّي إلى عرقلة حركة السَّير وخلق حالة من الارتباك لدى السَّائقين الآخرين وقد يصلُ الأمْرُ إلى أن يتسببَ في وقوع حادث، أو أن يضيّقَ الطَّريق على مَركبات المرور أو الإسعاف أو الطَّوارئ في استخدام أكتاف الطَّريق، لذلك فإنَّ البحث في تفاصيل ثقافة الطَّريق تُشكِّل اليوم منطلقاتٍ لوعيٍ مروري متحقِّق، وفَهْمٍ لمتطلَّبات هذا السُّلوك الَّذي يُفترض أن يضعَ المبادئ الأخلاقيَّة في إدارة السُّلوك المروري موَجِّهات لممارسات يسودُها الأمان والسَّلامة ويشعُر فيها الجميع بالأُنس والاستقرار، انطلاقًا من إنسانيَّة المرور الَّتي يجِبُ أن تكُونَ حاضرةً في الفعل المروري، بحيث يصبح الاهتمام بهذه التَّفاصيل مدخلًا لِنُموِّ ثقافة مروريَّة متَّزنة تضع القواعد والأخلاقيَّات منطلقًا لاستدامتِها واستمراريَّتها، بل إنَّها نموذج عملي لبناء إطار إيجابي يُعزِّز لدَى السَّائق روح المبادرة والمبادأة، فالتَّنافس الشَّريف في تحقيق مفاهيم السَّلامة على الطَّريق يأتي في ظلِّ مستوى الحرص والانضباط والالتزام الَّذي يُقدِّمه مستخدم الطَّريق في سبيل الوصول إلى وجهتِه آمِنًا مطمئنًّا.
أخيرًا، تبقى ثقافة احترام الدَّوْر وفسح المجال لِمَن لَه أحقيَّة التَّقدُّم حسب النِّظام المروري وأنظمة السَّير ذاتها بحاجةٍ إلى رقابة ذاتيَّة من مستخدم الطَّريق واستحضار لها في كُلِّ الأحوال وليس لمجرَّد وجود عناصر الضَّبط المروري، فإنَّ المتتبعَ لأسبابِ الحوادث المروريَّة وحالة الازدحام والاختناقات المروريَّة تبرزُ فيها مِثل هذه التَّصرُّفات السلبيَّة كأحَد المُشوِّهات الَّتي باتَتْ تزيدُ من الاحتقان المروري، والَّذي سببُه هذه التَّجاوزات غير المسؤولة للدَّوْر، والتَّعدِّي على حقِّ الغير في الطَّريق وغياب الشُّعور الذَّاتي بإنسانيَّة المرور وأخلاقيَّاته، فإنَّ مسألة احترام الدَّوْر والتزام ثقافة راقية في طريقة التَّجاوز وأساليب التَّعامل مع الطَّريق وفق أبجديَّات السَّلامة على الطَّريق، سوف يحدُّ من سُوء استخدام الطَّريق والتَّجاوزات الحاصلة من أكتاف الطَّريق أو غيرها والَّذي يُمثِّل في حقيقته تعدِّيًا على حقوق الغير فيه، وتبقَى ثقافة احترام الدَّوْر مساحة أمان تَسمُو بالفرد وترفعُ من مستوى مساهمته في الحدِّ من الاختناقات المروريَّة، محطَّات تأمليَّة في بناء وعيٍ مروريٍّ مستدام وجاهزيَّة التَّعامل عَبْرَ القيادة الوقائيَّة مع أيِّ ظرفٍ طارئ قد يواجهُ مستخدمَ الطَّريق. فإنَّنا مع قليلٍ من التَّأمُّل والانتظار واستشعار الحسِّ المروري، والتَّعاون الرَّاقي والصَّادق مع رِجال المرور بشُرطة عُمان السُّلطانيَّة ومساندتهم في تحقيق الأمان والسَّلامة لمستخدمي الطَّريق، نَحْوَ سوف نُغيِّر المُعادلة ونصنعُ الفارق ونحدُّ من الاختناق المروري الَّذي صنعَتْه أيدينا بفعلِ استهتارنا وتساهُلِنا في احترام ثقافة الدَّوْر والتزام المسار.
د.رجب بن علي العويسي