تموت الأمم وتبقى آثارها، وتفارقنا أرواح طاهرة وتظل مآثرها باقية إلى زمن غير معلوم، فالعظماء تظل مواقفهم نبراساً ودروساً وعبرَا وذكرى لا يمكن أن تمحى أو تزول، ورحيل الشهيد السيد حسن نصر الله، مثال على رحيل أحد الأبطال الذين قدموا مواقف صادقة وسنوات من الكفاح والعمل، وقد قال المولى سبحانه وتعالى في كتابه العزيز “مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا” وما قدمه المناضل نصر الله، لا يمكن إن يطمس ولا يمكن نكرانه أو تجاهله؛ فالشمس لا يمكن حجبها باليد، والأبطال الذين على منهجه وسيرته العطرة لا يموتون ولا يرحلون؛ بل تظل سيرتهم حاضرة.
نعم الأبطال لا يرحلون ولا يموتون لأنهم يتركون إرثًا خالدًا في بلادهم وفي شعوبهم، والسيد حسن نصر الله ترك هذا الإرث لأغلب الشعوب العربية والإسلامية من خلال مواقفه البطولية ودفاعه المستميت عن أعظم قضية في التاريخ “قضية فلسطين”. لقد كنَّا نتسمر عند شاشات التلفاز عندما ينتشر خبر كلمته، وذلك لإيماننا العميق بأنه صادق وقوي أمام الغطرسة الصهيونية العالمية؛ فهؤلاء لا يحسبون حساباً لأي دولة ولا يهابون أي أحد إلا من يعلمهم بأن القوة لا يرد عليها إلا بالقوة، وحزب الله الذي تزعمه السيد حسن نصر الله لقنهم دروسًا لن ينسوها أبدًا في عام 2000 وفي عام 2006، وما هذا الاحتقان الشديد والهجمات الشرسة على شخصه إلّا لأنهم يدركون بخطره عليهم.
لا أستغرب شخصيًا فرحة الصهاينة برحيل السيد حسن نصر الله زعيم حزب الله؛ لأنه أذلهم وقهرهم وحطم أصنامهم وانتصر عليهم في كل المواجهات، ولكن ما يُبكيني ويجعلني في صدمة وذهول هو فرحة بعض العرب والمسلمين بموته، ومهما كانت من خلافات مذهبية أو أحداث حدثت سابقًا، إلّا أن هذا لا يُبرِّر أبدًا هذه التصرفات؛ فالأمة العربية والإسلامية تمر بمنعطف خطير بسبب الغطرسة الصهيونية وآلة الحرب الإسرائيلية التي قضت على الصغير والكبير والرضيع وحتى الأجنة في بطون أمهاتهم لم تسلم منهم، فكان حريًّا بِنّا جميعًا أن نقف صفًا واحدًا أمام هذا العدو الغاشم، الذي دمر كل شيء وأحرق الأخضر واليابس وأفسد الأرض والحرث والنسل.
ومع هذا لا يضر الشهيد السيد حسن نصر الله ما عبَّر عنه البعض، فقد أدى الأمانة التي عليه، وكان لمدة تزيد عن 32 سنة على أهبة الاستعداد للشهادة وحقق الله له مبتغاه، وما يسعدنا كأمة إسلامية هو تأسيسه لهذه المؤسسة القوية التي لا تعتمد على شخصه وإنما قائمة كمنظومة قوية لها أركانها ولها رجالها الذين يذودون عنها بكل صرامة وأمانة، فمن سيخلف القائد الشهيد لن يكون أقل منه صرامة على الصهاينة إذا لم يكن أشد، ولينتظر العدو من قادة المقاومة في كل مكان ما يجعلهم في توجس وخوف وهلع، ولعل شهادته تكون مفتاح النصر وتحرير القدس من يد العدو الغاصب.
الأبطال لا يرحلون والمحبون للشهادة لا يموتون فهم أحياء عند المولى سبحانه وتعالى، تبقى آثارهم ومآثرهم ومناقبهم وأخلاقهم وكرمهم وجودهم وإخلاصهم ووقفتهم الصادقة مع الحق شهادة لهم، تغيب وجوههم عن المشهد الواقعي فقط وإنما أرواحهم وأعم الهم تظل خالدة، والوفاء يظل صامدًا لمثل هؤلاء حيث يذكرهم الناس في مجالسهم ويثنون عليهم في حديثهم، لقد فارقنا الشهيد السيد حسن نصر الله دون أن يقول لنا وداعًا، ولكن هذه هي سُنة الحياة ونؤمن بقضاء الله وقدره ولا نقول إلا ما يرضي ربنا (إنِّا لله وإنِّا إليه راجعون) وخالص تعازينا لأسرته ولحزب الله ولمحور المقاومة وللأمتين العربية والإسلامية.
د. خالد بن علي الخوالدي