“الثقافة“ ليست مجرد مجموعة من الكتب التي تُقرأ أو الشهادات التي تُجمع، بل هي جوهر يتغلغل في النفس والسلوك، انعكاس لمجموعة من القيم، الأفكار، والممارسات التي تتشكل مع مرور الوقت، عندما نتحدث عن “الثقافة”، لا ينبغي أن ننحصر في حدود المظاهر الأكاديمية أو الأدبية، بل نتعمق فيما يميز الشخص المثقف حقًا: قدرته على التأمل، على طرح الأسئلة، وعلى التفاعل مع محيطه بشكل يثريه ويثري الآخرين.
“الثقافة“ تتجاوز كونها حصيلة معلومات أو مجموعة معارف تراكمت على الرفوف، المثقف ليس هو من يختزن الكتب في ذاكرته أو يشارك في الورش والمحاضرات فقط، بل هو ذلك الشخص الذي يطبق ما تعلمه في حياته اليومية، يحوله إلى أسلوب حياة، الثقافة هي فهم أعمق للعالم، امتداد للذات من خلال الآخر، القدرة على النظر إلى المجتمع ليس من منطلق التلقين أو التوجيه، بل من خلال منظور نقدي وبنّاء.
“الثقافة“ تتطلب تفاعلاً نشطًا مع الآخرين،المثقف هو الذي لا ينغلق على ذاته ولا يحتكر المعرفة، بل يقدم للمجتمع ما هو أسمى من النظريات: يقدم رؤية جديدة، روحًا نقدية تسعى لتحليل الواقع وتقديم حلول عملية،إنه الشخص الذي يرى الجمال في التنوع ويحتفي بالاختلافات باعتبارها فرصة للتعلم والتطور، إن الإسهام الحقيقي للمثقف في المجتمع ليس في عدد المحاضرات التي يلقيها أو الكتب التي يقرأها، بل في كيفية تأثيره في سلوك الآخرين، في تحفيزهم على التفكير المستقل والإبداع.
إذاً، “الثقافة“ ليست عباءة يلبسها الشخص ليرى فيها الآخرين صورته، بل هي مرآة تعكس عمق الروح، هي عملية تطور مستمر، بحث دائم عن الحقيقة، ورحلة لا تنتهي نحو اكتشاف الذات والآخر، المثقف الحق هو من يرى في كل لحظة فرصة للتعلم، وفي كل شخص درسًا جديدًا، ويعيش بثقافة تنبع من القلب والعقل معًا، ساعيًا لتقديم شيء أعمق من مجرد المعرفة السطحية: فكرًا حيًا، وحضورًا أصيلاً، وتأثيرًا يمتد خارج حدود الكلمة المكتوبة.
سأسرد مجموعة من المرتكزات التي أعتقد بأنها تشكل خارطة طريق للشخص المبدع ليصبح “مثقفًا” بمعنى أعمق وأكثر شمولية،هذه المرتكزات لا تتعلق فقط بالمعرفة أو التعليم الرسمي، بل تتعلق أيضًا بالقدرات الفكرية والأخلاقية التي تجعله قادرًا على التأثير في مجتمعه بشكل إيجابي، إليك أبرز هذه المرتكزات: –
1. الوعي الذاتي والتأمل النقدي:
“المثقف“ يبدأ بفهم ذاته قبل الآخرين، من الضروري أن يتأمل في أفكاره وقيمه ومعتقداته وينقدها باستمرار، الوعي الذاتي يعني القدرة على تحديد نقاط القوة والضعف، والتطور من خلالها، وتجنب الانغلاق في إطار الأفكار المألوفة.
2. القدرة على التحليل النقدي:
“الثقافة“ الحقيقية تتطلب التفكير النقدي، وهو القدرة على تحليل الأفكار والمعلومات بشكل مستقل عن المؤثرات الخارجية، واستخلاص النتائج التي تتجاوز السطحية،المثقف الحقيقي لا يقبل الأمور كما هي، بل يسعى دائمًا لتفكيكها وفهمها من زوايا متعددة.
3. التنوع الفكري والانفتاح على الآخر:
المثقف يجب أن يكون منفتحًا على الثقافات والأفكار المختلفة، لا يمكن أن ينغلق على ذاته أو على مجموعة من الأفكار الثابتة، بل يجب أن يحتفي بالتنوع ويرى في الاختلاف فرصة للتعلم والنمو، هذا الانفتاح يخلق شخصًا أكثر قدرة على التفاعل مع مجتمعه بشكل إيجابي.
4. المساهمة الاجتماعية والفكرية:
“الثقافة“ ليست شيئًا يُمارس داخل غرف مغلقة أو في بيئات أكاديمية فقط، المثقف الحقيقي يساهم في مجتمعه بشكل ملموس، سواء من خلال مشاركته في قضايا اجتماعية، أو عبر نشر الأفكار الإيجابية التي تحفز على التفكير والإبداع، إنه يستفيد من معارفه ليس فقط لتعزيز مكانته الشخصية، بل لخدمة المجتمع وتحقيق التغيير الإيجابي.
5. التعلم المستمر والشغف بالمعرفة:
المثقف لا يتوقف عند حدود معينة من المعرفة، بل يسعى باستمرار للتعلم والتطوير، سواء من خلال قراءة الكتب، حضور المحاضرات، أو الانخراط في النقاشات الفكرية، إنه شخص شغوف بالمعرفة ويبحث دائمًا عن الجديد.
6. التوازن بين النظرية والتطبيق:
المعرفة النظرية قيمة، لكن تطبيقها في الحياة اليومية أكثر أهمية، المثقف المبدع يطبق الأفكار التي يؤمن بها في حياته العملية، ويجعل منها إطارًا لتوجيه سلوكه وأفعاله، هذا التوازن بين المعرفة النظرية والتطبيق العملي يجعله قادرًا على التأثير بشكل حقيقي.
7. التواضع الفكري والمرونة:
المثقف الحقيقي يعرف حدود معرفته، ويعترف بأن هناك دائمًا مجال للتعلم والنمو،هذا التواضع الفكري يجنبه الوقوع في فخ النرجسية الفكرية، ويفتح له أبوابًا جديدة للتعلم، بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يكون مرنًا وقادرًا على تعديل مواقفه وأفكاره بناءً على التجارب والتحديات الجديدة.
8. الالتزام بالقيم الإنسانية:
المثقف المبدع يتبنى قيمًا إنسانية عالمية، مثل العدالة، الحرية، والتعاطف مع الآخرين، هذه القيم تشكل جزءًا أساسيًا من شخصيته وتوجه سلوكه، سواء في علاقاته الشخصية أو في تأثيره على المجتمع.
الخلاصة
لكي يتمكن الشخص من أن يُسمى “مثقفًا” بحق، عليه أن يجمع بين الفكر والعمل، بين النقد الذاتي والتفاعل مع الآخر، وبين المعرفة النظرية والتطبيق العملي، هذه المرتكزات ليست مجرد خطوات لتحقيق لقب المثقف، بل هي جزء من رحلة مستمرة نحو فهم أعمق للذات والعالم.
الكاتب / حمدان بن هاشل بن علي العدوي
عضو الجمعية العمانية للكتاب والأدباء