ضربةُ الوعدِ الصَّادق الَّتي نُفِّذت من قِبل جمهوريَّة إيران الإسلاميَّة ضدَّ الكيان الصهيوني وبشكلٍ مفاجئ لم تُتحْ مجالًا من الوقت لهذا الكيان بالتقاطِ أنفاسه والاستعداد لأخذِ الاحتياطات اللَّازمة، فقَدْ كان الإنذار قَبل ساعتَيْنِ من الضَّربة، وهذه الضَّربة هي الَّتي كنَّا نتحدَّث عَنْها في حديثنا لمحطَّة فضائيَّة قَبل يومَيْنِ من تنفيذِها. ويبدو أنَّ القرار اتُّخذ في اجتماع مجلس الأمن القومي الإيراني عقبَ اغتيال سماحة السَّيد حسن نصرالله مباشرةً وتمَّ منحُ الضَّوء الأخضر لقائد القوَّة الجوفضائيَّة بتنفيذ الضَّربة الصَّاروخيَّة. والمعلوم أنَّ الصَّواريخ الإيرانيَّة الفرط صوتيَّة الَّتي استُخدمت هي من الأجيال المتوسِّطة وما زال لدَى طهران أجيال متقدِّمة من هذه الصَّواريخ تتحيَّن الظُّروف المناسِبة للانطلاقِ، وتُحقِّق حالةً من الرَّدع الاستراتيجي تمتلكها جمهوريَّة إيران الإسلاميَّة.
الضَّربة الإيرانيَّة كان لا بُدَّ مِنْها لاعتباراتٍ عديدة مِنْها انتزاع زمام المبادرة بعد عدَّة ضربات تلقَّتها إيران من قِبل الكيان الصهيوني مِنْها اغتيال رئيس المكتب السِّياسي لحركة حماس على أراضيها، وغيرها من الاستهدافات الَّتي انتهكت السِّيادة الإيرانيَّة وجعلت بعض المُتابعين للشَّأن الإيراني يتحدَّثون عن تراجع الموقف الإيراني ومِنْهم مَن ترجمَ الموقف سياسيًّا بعدم الانجرار مع المآرب الصهيونيَّة بجرِّ إيران والولايات المُتَّحدة نَحْوَ المواجهة وما يتبعها من مواجهة مفتوحة، لكن إيران أثبتَتْ أنَّها ليسَتْ متعجِّلة في اتِّخاذ القرار الَّذي يخدم استراتيجيَّتها وموقف محورها المقاوِم، مع العِلم أنَّ هناك بعضَ التَّصريحات ـ الَّتي أشارتْ إلى تأجيل الضَّربة الإيرانيَّة ـ جاءت بعد تعهُّدات بالمُضي قُدُمًا في المفاوضات بَيْنَ المقاوَمة الفلسطينيَّة والعدوِّ الصهيوني، لكن لم يتحقَّقْ شيء يُذكَر، الأمْرُ الَّذي جعلَ الكيان الصهيوني يتمادَى ويستمرُّ في نهجِه الدَّموي اللاإنساني في قِطاع غزَّة وفي الضفَّة الغربيَّة، وتجاوزَ كُلَّ الخطوط الحمراء باغتيالِ الأمين العامِّ لحزب الله، وهكذا هو هذا الكيان المُجرِم الَّذي نفَّذ إبادة جماعيَّة في قِطاع غزَّة بلغت (42) ألفَ شهيدٍ من المَدَنيِّين الأبرياء وما يُناهز (100) ألفِ مُصاب وعدَّة آلاف من الشُّهداء تحت الرُّكام والانقاض وما زال مستمرًّا في نهجه العدواني لم تردعْه إلَّا القوَّة والقوَّة وحْدَها مَن تجعله يتنبَّه أنَّ تكاليف العدوان باهظةٌ. علمًا أنَّ هذا الكيان المُجرِم لم يَنصَعْ لكُلِّ القرارات الدّوليَّة السَّابقة ولم ينصتْ لِمناشداتِ المُجتمع الدّولي، ومع ذلك ما زال مُحاطًا بالدَّعم غير المحدود من قِبل الإدارة الأميركيَّة الَّتي تواصل إمداده بالسِّلاح وتمضي معه في طريق مجهول، ولا نَعْلَم متى ستُدرك الولايات المُتَّحدة هذا الاتِّجاه المجهول الَّذي تجرُّها فيه حكومة اليمين المُتطرِّف في «إسرائيل»؟!
الموقف الرَّاهن بعد الضربة الإيرانيَّة المفاجئة، والحديث ما زال متداولًا حَوْلَ طبيعة وماهيَّة الردِّ الصهيوني الَّذي دائمًا يُعَبِّر عن مستوى الغطرسة الَّتي اعتاد عَلَيْها. وبالفعلِ كان هناك خيارات مُتعدِّدة لدَى الكيان الغاصب بالردِّ على إيران واستهداف المصالح الإيرانيَّة مِثل مصافي النِّفط والمَرافق النَّوويَّة والمراكز الحيويَّة. إلَّا أنَّ إيران عِندما اتَّخذت قرارها بالضَّربة وضعَتْ في اعتبارها كُلَّ الخيارات المُتاحة وأصدرت التَّعليمات بتجهيز منصَّات الصَّواريخ البالستيَّة الاستراتيجيَّة، وأرسلتْ تحذيراتها بأنَّ أيَّ مغامرة صهيونيَّة مع إيران ستُعرِّض «إسرائيل» لردٍّ مُدمِّر يستهدف بنيتها الدَّاخليَّة ولا يُمكِن تقدير حجمِ الدَّمار. وبالفعلِ جاءتِ الأقمار الصِّناعيَّة الأميركيَّة بالخبرِ اليقينِ مؤكِّدة ما حذَّرت مِنْه الولايات المُتَّحدة منذُ البداية بتوخِّي الحذَر والتحلِّي بضبط النَّفْس من قِبل «إسرائيل» وهو ما حقَّق معادلة الرَّدع الإيرانيَّة بنجاح .
الموقف المستقبلي للمواجهة لا يُمكِن الرُّكون إلى أنَّ كيان الاحتلال لن يُقدمَ على مغامرةٍ بتوجيهِ ضربةٍ نَحْوَ إيران، ولكن هناك أيضًا خيارات غير تقليديَّة يُمكِن اللجوء إِلَيْها وسبَق استخدامها في المواجهة بَيْنَ البلدَيْنِ مِنْها تنفيذ عمليَّات أمنٍ داخلي، والاستمرار في سياسة الاغتيالات، والتَّخريب للمصالحِ الإيرانيَّة، وخصوصًا ما يتعلق بالمرافق النَّوويَّة ومحطَّات الطَّاقة انتظارًا لجولةٍ أخرى يتحقَّق فيها عنصر المفاجأة ويمنح «إسرائيل» مزيدًا من الوقت للتَّخطيط كما لا يستبعد أيضًا اعتماد الخيار الأوَّل بتوجيهِ ضربةٍ محدودة قد لا تدفع المنطقة نَحْوَ مواجهة إقليميَّة أو عالَميَّة وهذا الاحتمال لا يُمكِن استبعاده أيضًا مع خطورته نظرًا للعجرفة المُتَّبعة لدَى كيان الاحتلال ولردِّ الاعتبار للموقفِ الصهيوني المهترئ منذُ السَّابع من أكتوبر 2023 بعد عمليَّة طوفان الأقصى وحتَّى اليوم مع مرور الذِّكرى السنويَّة الأُولى لهذا الطوفان العظيم.
العدوُّ الصهيوني ما زال يمارسَ عدوانَه بالإبادةِ الجماعيَّة على الأبرياء في فلسطين ولبنان، بالمقابل فإنَّ محورَ المقاوَمة حسَمَ خياره الاستراتيجي نَحْوَ المواجهة، ولا يوجد لدَيْه سقفٌ في حدود الردِّ حسبما أسماه الشَّهيد حسن نصرالله عمليَّة الحساب المفتوح، وسوف يستمرُّ في تكبيد الكيان التَّكاليف الباهظة بسبب هذه الجرائم ضدَّ الإنسانيَّة الَّتي يرتكبها ضدَّ الأبرياء في فلسطين المُحتلَّة.
اليوم حقَّقت إيران تقدُّمًا في إطار المواجهة مع الكيان الغاصب، ووعَتِ الدَّرسَ جيِّدًا مع هذا العدوِّ، وأدركتْ أنَّ خيار الرَّدع الاستراتيجي هو الَّذي يؤمِّن مصالح إيران الحيويَّة، وما زال دعمها وتنسيقها مستمرًّا مع محور المقاوَمة والتَّأكيد على وحدة السَّاحات؛ وما زال سكَّان الشَّمال في الجليل الأعلى في وضعٍ مجهول حتَّى تدركَ حكومة اليمين الصهيونيَّة معنى الألَم الَّذي يُكابده الآخرون من شعوب المنطقة، وكذلك المُجتمع «الإسرائيلي» الَّذي ذاق معنى الألَم، ومع ذلك لم يستطعْ هذا المُجتمع حتَّى اليوم الضَّغط على هذه الحكومة المُتطرِّفة للنُّزول من فوق الشَّجرة بأيِّ شكلٍ من الأشكال حتَّى لو بالسُّقوط من أجْلِ إعادة سكَّان مستوطنات الشَّمال أو إعادة الأسرَى المحتجزين ووقف إطلاق النَّار لإنهاء هذا الجنون الَّذي لم يتورَّعْ رئيس حكومة الاحتلال وأقطاب حكومته إلَّا باستمراره، وهو ما قد يُطيح ليس بحكومته فقط، بل بزوال كيانهم الغاصب. اللَّهُمَّ نصرك المؤزَّر الَّذي وعدتَ عبادك المؤمنين الصَّابرين الصَّادقين وما ذلك على الله بعزيز.
خميس بن عبيد القطيطي