في عصرنا الحالي، حيث تتسارع الأحداث وتتبدل الأولويات، نلاحظ تراجعًا واضحًا في علاقات الناس ببعضهم البعض، سواء بين الأقارب أو الجيران، وفي خضم هذا التغير الاجتماعي، بدأت الأعذار تتكاثر وتتكرر على الألسنة، معبرة عن انشغالات زائفة ومسافات وهمية، نلجأ إليها لتبرير تراجع التواصل الحقيقي، قبل أن نتأمل في عمق هذه التحولات، اريد التوقف عند لحظة زمنية قريبة لم تكن فيها وسائل التواصل متاحة كما هي الآن، ولكن رغم ذلك كانت القلوب أقرب والعلاقات أوثق.
كانت البيوت قديماً مفتوحة الأبواب على مصراعيها، يدخل الناس بلا موعد، ويخرجون بلا استئذان، كان الجار بمثابة الأخ، وإن كانت مسافة مادية تفصل بينهما، فالقلوب متصلة دومًا، الأعياد والمناسبات كانت تُحيي روح المحبة والتآلف، حيث تجد الأقارب يجتمعون حول مائدة واحدة يتبادلون الحديث والضحك، ويتشاركون الأفراح والأحزان بلا تكلف أو حاجة إلى دعوة رسمية، بل أن السؤال عن الجار كان من الواجبات غير المكتوبة التي يفهمها الجميع ويتبناها دون استثناء.
اليوم، ومع توافر الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، تبدو المسافة بين الناس أقرب، لكن الحقيقة مؤلمة، قد نرسل رسالة نصية أو نضغط على زر “إعجاب” على صورة أحد الأقارب في مواقع التواصل الاجتماعي، لكن هل هذا يغني عن اللقاءات والحديث المباشر؟
هل تكفي هذه “العلامات الرقمية” لخلق تواصل حقيقي؟ بل حتى السؤال عن الجار أصبح أمرًا نادرا، قد يمر شهر أو أكثر دون أن نسمع شيئًا عن جيراننا، رغم أننا نعيش في مبنى واحد، وفي نفس الحي، الأعذار جاهزة دومًا: “العمل شاق”، “الزحام يمنعني من التحرك”، “الأيام تمر بسرعة”، وغيرها من المبررات التي نقنع أنفسنا بها أولًا قبل أن نقنع بها الآخرين.
في الحقيقة، هذه الأعذار ليست سوى مرايا تعكس واقعًا غير مريح: لقد اخترنا الانعزال، نعم، نحن محاطون بوسائل تكنولوجية لم تكن متاحة من قبل، ومع ذلك نشعر بالعزلة أكثر من أي وقت مضى، تلك الرسائل النصية والمكالمات السريعة قد تسد الفراغ بشكل مؤقت، لكنها لا تستطيع أن تحل محل اللقاءات الحية التي تفتح القلوب وتبني جسور المحبة.
علينا أن نتوقف للحظة ونسأل أنفسنا: ما الذي تغير حقًا؟ هل تغيرت الحياة إلى هذا الحد أم أننا نحن من سمحنا لأنفسنا أن ننشغل عن أهم ما يربطنا كبشر، وهو التواصل الإنساني الحميم؟ من السهل إلقاء اللوم على التكنولوجيا أو على نمط الحياة السريع، لكن في النهاية، نحن من نختار كيف نعيش حياتنا وكيف نبني علاقاتنا.
إذا عدنا قليلاً إلى الوراء، نتذكر أن هناك فترة لم تكن فيها الهواتف المحمولة أو الإنترنت متاحة، ومع ذلك كانت العلاقات أقوى. كان الجميع يعرف أحوال بعضهم البعض، ويزورون بعضهم دون الحاجة إلى مواعيد مسبقة. أين ذهب هذا الشعور؟ لقد سمحنا للراحة الظاهرية التي توفرها التكنولوجيا أن تأخذ منا البساطة والجمال في التواصل المباشر.
الجيران اليوم قد يعيشون في نفس المبنى لسنوات دون أن يعرفوا بعضهم البعض. قد يمرون ببعضهم في الممرات دون تبادل حتى التحية، وكأنهم غرباء. الأقارب يكتفون بمكالمات سريعة أو رسائل نصية مختصرة تُرسل في المناسبات، وكأن هذه الكلمات المختصرة تكفي لتوطيد العلاقة وحفظ الود.
صلة الرحم ليست مجرد واجب ديني أو اجتماعي؛ إنها حاجة إنسانية تتطلب منا الالتزام، الشخص الذي يقطع صلة الرحم أو يهمل السؤال عن جيرانه يضر بنفسه قبل أن يضر الآخرين، لأن التواصل الإنساني يعزز شعورنا بالانتماء والأمان، ويمنحنا الدعم النفسي والاجتماعي الذي نحتاجه في حياتنا اليومية، إذا انقطعت هذه العلاقات، فإن الفرد يصبح معزولاً ومجردًا من روابطه الإنسانية.
وإذا تأملنا في الأعذار التي نقدمها لأنفسنا، سنجدها في الغالب أعذارًا واهية. العمل ليس عذرًا لعدم السؤال عن الأهل والأقارب، التكنولوجيا ليست عذرًا لعدم زيارة الجيران. الحقيقة هي أننا فقدنا الأولويات، انشغلنا بمظاهر الحياة السريعة والمادية على حساب علاقاتنا الإنسانية، نحتاج إلى إعادة النظر في هذه الأعذار التي نخلقها، والعودة إلى جذور التواصل الحقيقي.
في النهاية، لا يمكن لوسائل التواصل أن تحل محل الابتسامة التي نتبادلها عند اللقاء، أو حرارة المصافحة التي تُعبر عن دفء العلاقة، لا يمكن لرسالة نصية أن تحمل نفس المعنى العميق الذي يحمله الحديث المباشر والزيارة الفعلية، العلاقات تحتاج إلى وقت وجهد، وإذا لم نبذل هذا الجهد، فإنها ستذبل وتموت كما تذبل الزهور دون ماء.
علينا أن نعيد إحياء هذه الروابط، وأن نفهم أن الحياة ليست فقط في العمل أو النجاح المادي، بل في بناء علاقات متينة مع من حولنا. ففي نهاية المطاف، عندما ننظر إلى حياتنا، سنجد أن أهم ما نملكه هو علاقاتنا بالآخرين، وليس ما نحققه من إنجازات مادية. فلنجعل من التواصل مع الأقارب والجيران أولوية، لأن هذه الروابط هي التي تمنح حياتنا المعنى والقيمة.
الكاتب / حمدان بن هاشل بن علي العدوي
عضو الجمعية العمانية للكتاب والأدباء