يؤسِّس بناء منظومة رقابيَّة متكاملة قادرة على صناعة التَّغيير في الذَّات وإنتاج تحوُّل في الممارسات وتعظيم مسار الرقابة؛ باعتباره منهج حياة وطريق بناء أُمَّة ومسؤوليَّة فرديَّة ومُجتمعيَّة، يؤسِّس لمرحلةٍ متقدِّمة من الشَّراكة المُجتمعيَّة الفاعلة، والروح الإيجابيَّة العالية الَّتي تقرأ في نهج الرقابة روح التَّغيير القادم الَّتي تَسري في مُكوِّنات المُجتمع وتفاصيله وتنعكس على أداء أفراده ومؤسَّساته وكفاءة أدواته ونضج الوعي الجمعي وعقيدة احترام الإرادة والمسؤوليَّة الوطنيَّة، وإعادة إنتاج قناعات المواطن وسلوكه في مراحله العمريَّة المبكِّرة حَوْلَ قِيمة المال العامِّ وأهميَّة المحافظة عَلَيْه، وأنَّ مسؤوليَّة للجميع عَلَيْهم أن يكُونُوا له الحصن الحصين والحافظ الأمين من أجْلِ صناعة مواطن غيور وموظَّف نزيه ومسؤول مخلِص لتتَّجهَ الرقابة من التَّشريعات والضَّوابط واللّجان الرقابة والمتابعة إلى رقابة الذَّات واستشعارها في الحسِّ الدَّاخلي والضَّمير الحي، والابتعاد عن كُلِّ ما فيه تشويه صورة النَّفْس والمُجتمع، بل أن يكُونَ مسار الرقابة الَّذي يجمل حياة المواطن ويؤصِّل فيه روح الإنسانيَّة في استنطاق القِيَم المُعزِّزة للرقابة والنَّزاهة والمؤصِّلة لمبادئ الشعور الجمعي والحسِّ الوطني، والارتفاع بها فوق أنانيَّة النَّفْس والجشع والأثَرة والطَّمع إلى تعميق قِيَم الإيثار وسموِّ الخصال؛ باعتبارها مرتكزات لبناء نظام رقابي فاعل ومنجز. لذلك لم تَعُدِ المسألة الرقابيَّة حالة مزاجيَّة متعلِّقة برغبات الأشخاص أو القائمين على التَّطبيق، بل ممارسة أصيلة ومنهج عمل يضْمن الكفاءة والإنتاجيَّة ومهنيَّة الممارسة. عَلَيْه جاء التَّأصيل الوطني لهَا في اختصاصات جهاز الرقابة الماليَّة والإداريَّة للدَّولة، الَّذي بِدَوْره استشعر حجمَ المسؤوليَّة، وما تعنيه المَسيرة الرقابيَّة من تحوُّلات في المشهد العُماني القادم، ولأنَّ بناء ثقافة الرقابة الوقائيَّة والذَّاتيَّة والرقابة الجمعيَّة ونشر الوعي الرقابي وتعظيم شأنه في حياة الفرد والمُجتمع، وانطلاقتها من تصحيح الذَّات وتهذيب النَّفْس والبدء بالتَّغيير الذَّاتي ليتكيَّفَ السُّلوك القادم مع الاستحقاقات الوطنيَّة العُليا.
من هُنَا جاءت توَجُّهات جهاز الرقابة الماليَّة والإداريَّة للدَّولة واضحةً في التَّأكيد على تعظيم مسار الشَّراكة المُجتمعيَّة الفاعلة والمنجزة من أجْلِ بناء منظومة رقابيَّة متكاملة الأُطر متناغمة الأهداف متفاعلة الاستراتيجيَّات مؤطّرة الأهداف، يتقاسم الجميع مسؤوليَّة العمل بها والوفاء باستحقاقاتها، إذ الجميع شركاء في صناعة النَّزاهة وإنتاج الوعي الرقابي، في انطلاقتها من مبادئ الدِّين الإسلامي الحنيف وقِيَم المُجتمع العُماني وهُوِيَّته وسَمْتِه وسِماته واستفادتها من المعطيات والمستجدَّات، وأفضل التَّجارب والممارسات الرقابيَّة الإقليميَّة والدوليَّة لتضعَها في إطارها الشَّامل، وتتفاعل مع غيرها من المنظومات التَّشريعيَّة والقضائيَّة لتُشكِّلَ نسيجًا متكاملًا يحافظ على صدارة النَّزاهة وكفاءة أدوات المتابعة، ومعنى ذلك أنَّ الإيمانَ بمفهوم الرقابة المنجزة اليوم يضعنا أمام قناعة فرديَّة ومُجتمعيَّة مفادها أنَّ الرقابة الذَّاتيَّة ليسَتْ حالةً فطريَّة، بل مكتسبة تنمو مع الفرد من خلال التَّعليم والتَّوجيه والحفز والتَّجربة وتعريض الفرد للمواقف والأحداث المُجسِّدة للرقابة والنَّزاهة، فهي بذلك تتغيَّر بتغيُّر المواقف وتعرِّض الفرد للأزمات والأحداث، ما يؤكِّد على أهميَّة تعهُّدها بالرعايَّة والاهتمام والتَّعليم والتَّدريب والتَّشخيص والتَّحليل، ما يسمُو بها فوق الغايات، ويرتقي بها نَحْوَ تحقيق الأولويَّات، وعَبْرَ التَّأطير والتَّقنين في الإجراءات والمهنيَّة في الأدوات والأساليب والتَّوسُّع في الخيارات، والانتقال بهذا المسار من ضبطيَّة القانون إلى تشاركيَّة الأدوات وتقارب التَّوجُّهات وتفاعل المشتركات في استيعاب معطيات هذه الرقابة والانتقال بها من الممارسة اللحظيَّة إلى الشُّعور الدَّاخلي الَّذي يستحضره الفرد والمُجتمع في المواقف المختلفة ويستدعيه في ذاكرته والمواقف والمتغيِّرات والأزمات والتَّحدِّيات الَّتي يواجهها؛ لذلك جاءت مبادرات جهاز الرقابة الماليَّة والإداريَّة للدَّولة بشأن الخطَّة الوطنيَّة لتعزيزِ النَّزاهة 2023- 2030، وغيرها كمرتكزات يُمكِن من خلالها صناعة التَّغيير في الممارسة الرقابيَّة وتجنيبها ردَّات الفعل الوقتيَّة، ومزاجيَّة التَّصرُّف؛ إلى اعتبارها جوهر القِيَم والمبادئ العُمانيَّة، والتزامًا فرديًّا ومُجتمعيًّا في سبيل تحقيق الأولويَّات الوطنيَّة، الأمْرُ الَّذي يضع مسار الرقابة المُجتمعيَّة الَّتي سعَى الجهاز لأن تكُونَ حاضرةً في الواقع الاجتماعي الوطني بكُلِّ تفاصيله، أمام منظورات عدَّة وخيارات متنوِّعة، وقواعد سلوك أصيلة، ومرتكزات في العمل المسؤول والأداء المخلِص. فالرقابة تبدأ من الفرد، وتمثُّله لها في اقتناع الضَّمير، وإحساس الذَّات بالمسؤوليَّة، وإزالة كُلِّ المعكرات المرتبطة بالمزاج الشَّخصي كالأنانيَّة والفردانيَّة والفوقيَّة والسلطويَّة وغوغائيَّة الذَّات لِتتَّجهَ لصالحِ إنتاج المواطن الصَّالح والمواطنة المنتِجة والأداء المخلِص.
ويُمثِّل التَّعليم أحَد أهمِّ مصادر تعزيز النَّزاهة وترسيخ قِيَمها ومبادئها وأخلاقيَّاتها وممارساتها القويمة تجاه المال العامِّ والوظيفيَّة العامَّة، انطلاقًا من الميزة التَّنافسيَّة الَّتي يمنحها التَّعليم لهذا المنظور الحضاري الرَّاقي، في بناء وعي رقابي مستدام، عَبْرَ مناهجه وطرائقه وأساليب التَّدريس والخطط الدِّراسيَّة والأنشطة والبرامج والمحتوى التَّعليمي ذاته، وتطبيقاتها، وفق نماذج محاكاة عمليَّة للواقع الَّذي يعيشه المتعلم، وتبني أفضل الممارسات الدَّاعمة لتعزيز النَّزاهة، وترسيخ مبادئها وتأصيل قِيَمها وأخلاقيَّاتها وبناء أُطُرها، وإعادة فرص إنتاجها في مُجتمع الطَّلبة، وتمكين الأُطُر التَّعليميَّة بما تمتلكه من موَجِّهات وفرص وبرامج ومساقات تدريسيَّة ومناهج تعليميَّة وأنشطة ومساحات احتواء ومنصَّات التقاء في تعظيم قِيمة المال العامِّ وأخلاقيَّات الوظيفة العامَّة في حياة الطَّلبة وتنشئتهم على هذه المعاني النَّبيلة لِتصبحَ حصونًا داعمةً لَهُم في حياتهم القادمة، وفي التَّعامل مع المواقف الحياتيَّة وتشعُّباتها المختلفة، وعِندها يُصبح دَوْر التَّعليم مساحة أمان لاستنطاق القِيَم واستنهاض العزائم، وترقية الفضائل، وتصحيح الانحرافات الَّتي قد تُسيء إلى المال العامِّ وتؤدِّي إلى تراكمات واختلالات غير سارَّة ترفع من سقف الفساد؛ فإنَّ التَّعليم عِندما يُصاحِبه حُسن التَّوجيه، وجودة المحتوى، وكفاءة المُعلِّم وعُمق المنهج، ويمنح الطَّالب فرصًا أكبر للتَّدريبات والتَّطبيقات العمليَّة ونماذج المحاكاة، فإنَّه الأقدر على بناء ثقافة الرقابة الوقائيَّة وترسيخ أبجديَّات النَّزاهة في حياة الأجيال، وتعميق حضورها في بيئات التَّعليم لِتصبحَ نماذج وطنيَّة، تحملُ قدسيَّة الوطن وتحترم موارده، وتسعَى لتحقيقِ العدالة، وتنتزع من ذات أفراده حاجز الأثَرة وعقليَّة النُّدرة واستغلال النُّفوذ والمصالح الشَّخصيَّة.
وبِدَوْره يُعَدُّ الإعلام القوَّة النَّاعمة في تعزيز الاتِّجاهات الإيجابيَّة نَحْوَ مفهوم الرقابة والنَّزاهة وتأصيلها في ثقافة المُجتمع. ويأتي الدَّوْر الرقابي للإعلام محطَّة تحوُّل في مَسيرة الإعلام بسلطنة عُمان، حيث جاء في أهداف رؤية عُمان 2040 «ودَوْر رقابي بصير وفاعل للإعلام» بحيث تتَّجه بوصلة العمل الإعلامي إلى إنتاج وتعظيم القِيَم المُعزِّزة للرقابة والنَّزاهة، سواء في محتوى الوسيلة الإعلاميَّة وجملة المفاهيم والمفردات والمبادئ الرقابيَّة، أو في بناء قدرات إعلاميَّة واعدة تحمل على عاتقها تعميق المفاهيم الرقابيَّة وتجسيدها في سلوكها الإعلامي وعَبْرَ قراءة معمّقة لمفاهيم الرقابة والنَّزاهة والمساءلة والمحاسبيَّة وحوكمة الأداء والَّتي تجسِّد خصوصيَّة المرحلة، وطبيعة التَّحوُّل الَّذي تعيشه، فيعمل على استيعابها ويفتح منصَّاته بالحديث عَنْها وسَبر أعماقها ودلالة تفاصيلها وبناء النَّماذج المُعبِّرة عَنْها، والمُبرِّرات المرتبطة بها، فيقف مِنْها موقف الدَّاعم والمسوِّق لهَا، الحامل لمعطياتها والمُبصِّر للمُجتمع والرَّأي العامِّ بما تحمله من دلالات، وما تُبرزه من تعابير أو تطرحه من بدائل أو تُعِيدُ إنتاجه من ثقافة مُجتمعيَّة. وبقدر إيلاء الإعلام لمفردات الإصلاح والمتابعة والنَّزاهة والشفافيَّة والمسؤوليَّة والرقابة على الأداء الحكومي، ومتابعة أداء المسؤول الحكومي واللامركزيَّة، وبناء الضَّمير والحسِّ المسؤول وغيرها؛ بقدر ما تتأصَّل في ثقافة المُجتمع وقناعات المواطن فيتَّجه الإعلام إلى دَوْرٍ أكبر في التَّأثير والاحتواء وصناعة التَّوَجُّهات. فإنَّ تأطير الصُّورة العمليَّة لِدَوْر التَّعليم والإعلام في تعظيم المسار الرقابي يجسِّد اليوم في أحَد أبعاده سعيَ الجهاز إلى الحصول على الرَّجع الميداني المُجتمعي حَوْلَ «تقرير الرقابة للمُجتمع» والتَّحوُّلات النَّوْعيَّة الَّتي شهدتها بنية التَّقرير ومحتوى الملخَّص ومضمونه وشكله والرَّصانة المعلوماتيَّة فيه المُعزَّزة بالشَّواهد والدَّلائل، والشَّفافيَّة في طرحِ القضايا، والإشارة إلى التَّجاوزات، والتَّفاعل المُجتمعي مع التَّقرير في تنوُّع الرُّدود والآراء ووجهات النَّظر عَبْرَ المنصَّات الإلكترونيَّة وبخاصَّة منصَّة (X)، وجملة المقالات الَّتي يُعبِّر بها كتَّاب الأعمدة والأكاديميُّون وصنَّاع الكلمة، وخبراء القانون والاقتصاد ومكافحة الفساد، ومروِّجو الدِّعاية والإعلانات في المنصَّات الاجتماعيَّة.
د.رجب بن علي العويسي