في عالم يعاني من تصاعد الأزمات الإنسانية والصراعات المسلحة، تتجلى بوضوح أزمة القوانين الدولية وكيفية تطبيقها، ويعتبر الكيان الصهيوني نموذجاً صارخاً على كيفية استغلال القوانين الدولية وسخريتها منها، حيث تتجاهل بشكل متكرر القواعد التي وضعتها المنظمات الدولية لحماية حقوق الإنسان، وذلك من خلال تنفيذ سياسات احتلالية وممارسات تطهير عرقي، كما يظهر كيان الاحتلال الصهيوني عدم الالتزام بالمبادئ الأساسية للقانون الدولي، بما في ذلك ميثاق الأمم المتحدة، واتفاقيات جنيف، وقرارات مجلس الأمن التي تدين انتهاكات حقوق الفلسطينيين.
إن هذا التجاهل السافر للقوانين يخلق حالة من الإحباط وفقدان الثقة في النظام الدولي برمته، حين تتلاشى المصداقية في تطبيق القوانين، يُصبح من الصعب على الدول والشعوب استعادة ثقتها في قدرة الهيئات الدولية على تحقيق العدالة وحماية الحقوق، هذا العالم الذي يُفترض أن يسوده النظام والقانون يتحول إلى غابة، حيث يُصبح الأقوياء قادرين على تجاهل القوانين دون عواقب، مما يترك الضعفاء فريسة سهلة للاعتداءات، بالتالي، إن هذه الديناميكية تضعنا أمام سؤال ملح: كيف يمكن للبشرية أن تتقدم نحو عالم أفضل إذا كانت القوانين التي تحمي حقوق الإنسان تُستخدم كأدوات للتمييز والقمع؟
وفي ظل تصاعد الأزمات الإنسانية والحروب المدمرة في مختلف أنحاء العالم، وبالأخص النزاع المستمر في قطاع غزة، يبرز السؤال: هل أصبح إنشاء هياكل جديدة مثل مجلس أمن جديد وأمم متحدة جديدة، مقرهما موسكو وبكين، ضرورة ملحة؟ لقد أثبت الهيكلان الحاليان عجزهما عن معالجة الأزمات وتقديم الحلول الفعالة، مما أدى إلى تفشي الحروب والإبادات دون رادع حقيقي.
هذا الطرح يأتي نتيجة لعدم قدرة الهيكلين الحاليين على تحقيق السلام واستتباب الأمن في مناطق النزاع المختلفة، ولا سيما في غزة، حيث تستمر الحروب والإبادات بشكل يومي.
عجز الهيكلين الحاليين
منذ تأسيس الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، كان من المفترض أن تكون هذه الهيئة حامية للسلام والأمن الدوليين، إلا أن الواقع أثبت أن مجلس الأمن الدولي، الذي يتمتع بحق النقض (الفيتو) من قبل الدول الكبرى، أصبح أداة لتعزيز مصالح تلك الدول أكثر من كونه وسيلة لتحقيق العدالة، فالتدخلات العسكرية والانتهاكات التي شهدتها العديد من الدول، ومنها قطاع غزة، تُظهر الفشل الواضح للأمم المتحدة في تنفيذ القوانين الدولية.
وتسجل العديد من المناطق حول العالم أزمات إنسانية خانقة، حيث تزداد الضغوط على المدنيين وتستمر الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وفي سياق الصراع الفلسطيني، تتواصل الانتهاكات الصهيونية للقوانين الدولية، بما في ذلك قوانين حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، ورغم وجود عدد من القرارات الأممية التي تدين هذه الأفعال، إلا أن عدم الالتزام بها، وتجاهل الدول الكبرى، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، يؤدي إلى استمرار النزاعات والعمليات العسكرية.
بالتالي، إن الحديث عن إنشاء مجلس أمن جديد وأمم متحدة جديدة يثير العديد من التساؤلات حول إمكانية تحقيق الاستقرار العالمي، إذ يُعتبر هذا الاقتراح بمثابة محاولة جادة للتصدي للأزمة العالمية الراهنة، وتقديم بدائل أكثر فعالية في معالجة الأزمات والنزاعات، حيث أن موسكو وبكين، كقوتين دوليتين بارزتين، لديهما القدرة على تقديم رؤية جديدة للنظام العالمي، تقوم على مبدأ تعدد الأقطاب والاحترام المتبادل بين الدول، كما أن إنشاء هياكل جديدة قد يوفر منصة أكثر شفافية وعدالة للدول الصغيرة والمهمشة، ويعطي صوتاً للمجتمعات المتضررة من الحروب.
الضرورات القانونية والسياسية
ومع ذلك، يبقى السؤال: هل ستلتزم الدول الكبرى، بما في ذلك روسيا والصين، بالقوانين الدولية وحقوق الإنسان إذا تم إنشاء هذه الهياكل الجديدة؟ إن وجود نظام قانوني فعّال يحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية، وليس مجرد إعادة هيكلة للكيانات الموجودة، إذ يجب على أي نظام جديد أن يضع قوانين حقوق الإنسان في صميم أولوياته، ويعزز من المراقبة والمحاسبة على انتهاكات هذه الحقوق، كما يجب أن يكون هناك التزام عالمي برفع العقوبات عن الدول المتضررة من النزاعات، ومنحها الفرصة لإعادة بناء نفسها بدلاً من معاقبتها.
وإن الحاجة لإنشاء مجلس أمن جديد وأمم متحدة جديدة ليست مجرد فكرة نظرية، بل هي ضرورة ملحة في ظل الواقع الراهن، إن قدرة هذه الهياكل الجديدة على تغيير الأوضاع الحالية تعتمد على مدى التزام القوى الكبرى بالقوانين الدولية، وتحقيق العدالة للضحايا، وبناءً عليه، إن العالم بحاجة إلى بيئة أكثر أماناً واستقراراً، حيث تُعتبر الإنسانية أولوية، وليس مجرد أرقام في معادلات سياسية.
كما أن الشعور بالاشمئزاز تجاه الحملات الإعلامية التي تمجد الوضع الراهن في العالم العربي ليس مجرد رد فعل عابر، بل هو دعوة للتفكير العميق حول حقيقة ما يجري. بدلاً من اعتبار الإبادة والتهجير الأسطورة البطولية التي تروّج لها بعض الأصوات، يجب أن ندرك أنها في جوهرها جريمة ضد الإنسانية، تسعى إلى طمس الهوية وتفكيك النسيج العربي.
ما يحدث اليوم هو تعبير عن معاناة تاريخية عميقة، المواطن العربي يعاني من عقدة نقص مستمرة نتيجة الإقصاء الذي يتعرض له، وفقدان التواصل مع أمجاده الحضارية. وبدلاً من الاعتراف بالواقع المرير والتحديات الحقيقية، يتبنى البعض فكرة أن هذه الإبادة هي جزء من مجد عربي معاصر، هذه الصورة الخاطئة تعيق القدرة على الفهم والوعي، وتمنع العمل الفعّال لإنقاذ الفلسطينيين من الوضع الذي يهدد وجودهم.
لذلك، ما نحتاجه هو إدراك أن الوضع الراهن هو حقاً إبادة جماعية وسرقة للأرض وتاريخها، المواطن العربي، المغمور بالأوهام، يشبه الشخص الذي يتناول جرعة من الأمجاد الكاذبة بينما يتناول وجبة دافئة، فقط ليشعر بالشبع المؤقت، لكن هذه الأوهام لا تدوم، فهي تعشعش في اللاوعي، مما يؤدي إلى ردود أفعال مخدرة وغير فعالة.
بالتالي، إن النتائج الكارثية لهذه العقلية قد تقود إلى محو الشعب الفلسطيني من الذاكرة الجمعية، مما يفتح المجال أمام الوحوش لتهديد الوجود الفلسطيني في الضفة والشتات، وبالتالي تهديد الجميع، بالإضافة إلى ذلك، إن هذه النظرة المحدودة التي تتجاهل الخطر الأكبر لن تؤدي إلا إلى تداعيات وخيمة على الجميع.
لذا، يتعين علينا العمل نحو بناء نظام عالمي جديد يعترف بالحقوق الإنسانية ويعزز العدالة، بدلاً من الاستمرار في هذا الاتجاه الذي يُشرع الإبادة، أيضاً يجب أن نقوم بتوحيد الجهود لمواجهة الظلم ونشر الوعي، وأن ندعو إلى نظام يضمن حماية جميع الشعوب من التهديدات الوجودية، وعلى الجميع أن يدرك أن هذه المعركة هي معركة وجود، وليست مجرد شعارات أو أمجاد وهمية، لذا من الضروري التحرك قبل فوات الأوان، وقبل أن يصبح النضال من أجل البقاء ذكرى تُنسى.
بالتالي، إن الاستهتار الصهيوني بالقوانين الدولية، بدعم غير مشروط من الولايات المتحدة، يُظهر كيف يمكن للنفوذ السياسي والاقتصادي أن يُشرعن الإبادة الجماعية ويدعم الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بينما تستمر عمليات القتل والتشريد في قطاع غزة ولبنان، يتجاهل المجتمع الدولي القوانين التي تُحرم هذا النهج، مثل اتفاقية منع الإبادة الجماعية التي تجرّم الأفعال التي تُمارَس بدافع التمييز العرقي أو القومي، كذلك، تُعتبر اتفاقيات جنيف مرجعاً أساسياً تفرض على الدول التزامات واضحة لحماية المدنيين في مناطق النزاع، وهو ما يخالفه الكيان الصهيوني بشكل صارخ.
وفي ظل هذه المعطيات، يصبح من الضروري وضع حلول عملية لإنهاء هذا الوضع المأساوي، حيث ينبغي على الدول العربية والمجتمع الدولي التحرك بشكل جاد وهو ما يبدو أنه من المستحيلات السبعة، من خلال دعم المقاومة السلمية، وتقديم المساعدات الإنسانية، والدعوة إلى محاسبة المسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية، كما يجب على الهيئات الدولية تعزيز آليات المراقبة والمحاسبة، واستعادة الثقة في القوانين الدولية عبر اتخاذ مواقف صريحة تجاه الانتهاكات الصهيونية.
كما يجب أن تُعقد مؤتمرات دولية تهدف إلى دعم القضية الفلسطينية وتقديم الحلول السلمية العادلة، لضمان حقوق الشعب الفلسطيني وحقه في تقرير مصيره، وإن الفشل في اتخاذ خطوات فعالة لن يُعزز فقط من حالة الفوضى، بل سيفتح المجال لمزيد من الصراعات والعنف في المنطقة، لذلك، على المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤوليته التاريخية، ويقف ضد أي شكل من أشكال الإبادة والتمييز، لضمان عالم أكثر عدلاً وسلاماً، أو كفانا من نظام دولي يبدو أنه وضع لسرقة تاريخ الشعوب.
عبد العزيز بدر عبد الله القطان / مستشار قانوني – الكويت.