إن القرآن الكريم هو الكتاب الذي أنزله الله هدى ورحمة للعالمين، وهو النور الذي يضيء لنا الدروب في أوقات الشدة والفتنة، وفي زمن تتقاذف فيه أمواج الفتن والشرور، وفي ظل الأزمات التي تعصف بالعالمين العربي والإسلامي، نجد أنفسنا بحاجة ماسة إلى العودة إلى هذا الكتاب العظيم، الذي يحتوي على مبادئ الحق والعدل، ويجسد قيم الإيمان والتقوى. يقول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: “إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً” (الإسراء: 9).
إن زمننا هذا يشبه عصور الفتن التي شهدها أسلافنا، حيث تشتد المعارك بين قوى الحق والباطل، ويدافع المؤمنون عن قيمهم أمام هجمات أعداء الدين. وكما يقول الله تعالى: “أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين” (آل عمران: 142). إن هذا التحدي يتطلب منا الصبر والثبات، والاعتصام بالقرآن الكريم، الذي كان دومًا الملاذ لكل المؤمنين.
وإن من الضروري أن نعيد النظر في دور القرآن في حياتنا، فهو الحصن الحصين الذي يقي المجتمعات من التفسخ والضياع. “هذا بيان للناس وهدىً وموعظة للمتقين” (آل عمران: 138). في هذه الآيات تتجلى أهمية القرآن في توجيه الناس نحو الصواب ونشر الفضيلة، وهذا ما نحتاج إليه اليوم، فالتحديات تزداد والفتن تحيط بنا من كل جانب.
لذا، فلنعد إلى القرآن الكريم، نتلو آياته ونتدبر معانيه، ولنجعله منهج حياتنا، ولنستمد منه القوة والعزيمة لمواجهة التحديات التي تطرأ على أمتنا. قال الله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون” (آل عمران: 200). إن الفلاح في هذه الدنيا والآخرة مرتبط بمدى تمسكنا بكتاب الله، فهو الجسر الذي يوصلنا إلى النصر والتمكين.
ومن هذه المقدمة نستكمل تفسير سورة النمل المباركة بالاعتماد على أهم كتب التفسير.
بسم الله الرحمن الرحيم
قلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ.
تتجلى عظمة القرآن الكريم في آياته العظيمة، وتبرز بلاغته وقوة مفرداته في السورة الكريمة، في الآية “قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ”، يُفهم أن “عسى” تعني “لعل”، وهذا يعكس الأمل في رحمة الله وأنه قد يأتيهم ما يستعجلونه، كما يؤكد السدي أن الله سبحانه وتعالى قد يردف لهم شيئاً من النصر أو الخير الذي يسعون إليه، وفي الآية “وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ”، تشير هذه الآية إلى أن الله تعالى يمتاز بالفضل الكبير على عباده، ولكن كثيرًا منهم لا يعترفون بهذا الفضل أو لا يقدرون النعم، وهذا يبرز طبيعة البشر التي تفضل عدم الشكر. في الآية “وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ”، يُظهر أن الله سبحانه وتعالى عالم بأسرار النفوس وما تخفيه، وهذا يعزز الشعور بمراقبة الله للعباد وأنه لا يخفى عليه شيء.
وفي الآية “وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ”، تفسر هذه الآية كعلامة على قدرة الله وعلمه الواسع، فالطبرسي يشير إلى أن كل ما يجري في الكون مدون في كتاب الله، مما يعكس دقة حكمته. في الآية “إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ”، تشير هذه الآية إلى أن القرآن الكريم يحتوي على حقائق وقصص تؤكد على ما يتناقض معه بني إسرائيل في تعاليمهم. وأخيرًا في الآية “وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ”، تلخص هذه الآية أهمية القرآن، حيث تعتبره رحمة وهداية لمن يؤمن به، مما يعكس رسالته العالمية.
كما تتميز هذه الآيات بأسلوب بلاغي عميق يتضمن عددًا من المحسنات اللغوية، حيث يظهر التكرار والتأكيد في ذكر “وإن” لتعزيز المعاني والتأكيد على صفات الله، مما يعكس أهمية ما يُقال، يتجلى التضاد في حالة الناس بين الشكر والجحود، مما يعكس طبيعة البشر. كما يظهر استخدام “عسى” لإبراز الأمل، مما يجعل القارئ يشعر بالإيجابية رغم الظروف الصعبة. تتميز الآيات أيضاً بالإيجاز والبلاغة، فهي مختصرة لكنها تحمل معاني عميقة، مما يدل على قوة اللغة العربية وقدرتها على التعبير عن الأفكار الكبيرة في كلمات قليلة، إن هذه الآيات، بما تحمل من معانٍ عميقة ومحاسن بلاغية، تُظهر أن القرآن الكريم هو منهج حياة وسبيل إلى الهداية والرحمة، مما يجعلنا نعود إليه في أوقات الشدائد.
وتُعد الآيات الكريمة من القرآن الكريم من أعمق ما يمكن أن نقرأه في الأدب البلاغي واللغوي، حيث تتمتع بمساحة واسعة من المعاني والدلالات التي تستحق التعمق. تبدأ الآية الأولى بعبارة “قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ”، حيث يُستخدم الفعل “عسى” الذي يعبر عن الأمل والتفاؤل، مما يعكس طبيعة الإيمان بالله وقدرته على تحقيق ما يتطلع إليه الإنسان. هذه العبارة تدل على عدم اليقين مع وجود الأمل، مما يخلق جوًا من الترقب والإيمان بأن الله قادر على تغيير الأحوال.
وفي الآية الثانية “وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ”، تتجلى البلاغة في التوازن بين الفضل والعدم. ففي الوقت الذي يُبرز فيه الفضل الإلهي، يُعبر “ولكن” عن التناقض بين فضل الله وبين جحود الناس، مما يزيد من وضوح الصورة. تبيّن هذه الآية طبيعة البشر الذين ينسون النعم، مما يعكس عمق الجانب النفسي في العلاقات بين الخالق والمخلوق.
أما في الآية الثالثة “وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ”، فنرى توظيف الفعل المضارع “يَعْلَمُ” الذي يحمل دلالة الاستمرارية، مما يدل على علم الله الشامل واللاحق بكل شيء، سواء أكان في العلن أو في السر. إن هذا العلم الإلهي يُعد حافزًا للمؤمنين للاعتماد على الله والرجوع إليه في كل الأمور، كما أنه يحمل في طياته تحذيرًا للمنافقين.
وفي الآية الرابعة “وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ”، يتم استخدام أسلوب التوكيد “ما… إلا”، مما يضفي قوة على الفكرة بأن كل شيء مُدون ومعروف، ولا يُفوت علم الله شيء. هذه الصياغة تعكس أيضًا قدرة الله وعلمه، مما يُعزز الإيمان بأن كل الأحداث محكومة بإرادته، وبالتالي لا يوجد ما يُسمى بـ “الصدفة”.
الآية الخامسة “إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ” تحمل في طياتها دعوة للرجوع إلى الكتاب المنزل، حيث يُظهر المعنى أن القرآن يقدّم الحقائق التي تتعلق بشؤونهم، مما يضفي على القرآن دورًا توجيهيًا للبشرية. وبالمثل، فإن الآية السادسة “وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ”، تُبرز قدرة القرآن على الهداية، حيث يتجلى في ذلك جمال العبارة “هدًى ورحمة”، التي تعكس ما يُقدمه الله للمؤمنين من عون ومساعدة، مما يُسهم في بناء مجتمع صالح قائم على التعاليم الربانية.
وتتجلى البلاغة في هذه الآيات عبر استخدام أسلوب الاستفهام، التأكيد، والتناقض، مما يُضفي عمقاً ورونقاً على المعاني، وكل آية تحتوي على طبقات من الدلالات، حيث تُعبر عن حقائق وجودية ودينية تتعلق بالإنسان وعلاقته بالخالق. اللغة المستخدمة تتسم بالوضوح والجمال، حيث تتناغم المفردات لتُبرز معاني عميقة وبليغة، وتظهر قوة الأسلوب القرآني في التأثير على القلوب والأذهان. إن هذه الآيات ليست مجرد كلمات، بل هي رسالة حية تدعو كل مؤمن للتمسك بإيمانه والعودة إلى الله، مستشعراً في الوقت نفسه عظمة الرب وفضله عليه.
وفي ختام هذه الرحلة الروحانية مع آيات سورة النمل، يتضح لنا أن القرآن الكريم ليس مجرد نصوص تُقرأ، بل هو نورٌ يُهدي الشعوب إلى السبل القويمة، ومرجعٌ يعيدهم إلى الفطرة السليمة، لقد أثبتت هذه الآيات بوضوح أن الله تعالى هو ذو الفضل العظيم، الذي يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، مما يُعزز في نفوسنا اليقين بقدرة الله ورحمته الواسعة.
وإن استشعار فضل الله ورحمته يفتح أمامنا آفاق الأمل والإيمان بأن الهدى يكمن في العودة إلى القرآن كمرشدٍ رئيسي. إن هذا الكتاب المقدس يحتوي على دروسٍ عميقة تهدف إلى إصلاح النفس البشرية والمجتمعات بأسرها، ويعكس واقعًا يحتاجه العالم اليوم، خاصة في ظل الأزمات والمعارك التي تعصف بالعالمين العربي والإسلامي.
بالتالي، نستخلص من هذه الآيات دعوة ملحة إلى التأمل في قوة الإيمان والشكر لله على نعمه، وضرورة الالتزام بالتعاليم القرآنية التي تقدم لنا توجيهات واضحة للتعامل مع التحديات. إن الوعي بأهمية الشكر لله، وتعزيز الصلة معه، يُعتبران عاملين أساسيين في التغلب على الصعوبات.
فلنتخذ من القرآن الكريم منارةً في دروب حياتنا، ولنكن حريصين على تطبيق تعاليمه في حياتنا اليومية، كي نخرج من ظلمات الجهل واليأس إلى نور الهداية والأمل. إن الشعوب التي تستند إلى كتاب الله في أوقات الشدة والرخاء هي شعوب قادرة على البناء والتطور، قادرة على استعادة هويتها وكرامتها. لنكن من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، لنُحسن استثمار هذا الكتاب في مجتمعاتنا، ونجعل من تعاليمه نبراسًا يُضيء لنا الطريق نحو مستقبلٍ أفضل، مليء بالرحمة والهدى والسلام.
عبد العزيز بدر عبد الله القطان / كاتب ومفكر – الكويت.