تخطو بلادنا الحبيبة خطوات مُوفقة وصادقة نحو مُحاربة الفساد المالي والإداري بكل أنواعه وأشكاله، بفضل من الله وأبناء هذا الوطن المخلصين الذين نعدهم العين الثالثة التي تشارك في المراقبة وإبلاغ عن المخالفات التي تقع من البعض في مجالي استنزاف المال العام والاستيلاء عليه بدون وجه حق وخاصة ضعاف النفوس الذين يتولون المناصب العامة.
كل ذلك يحدث لكون هدف هؤلاء البشر مصلحتهم الشخصية، ورفع أرصدتهم البنكية على حساب المجتمع الذي يُعاني من العديد من التحديات كالمديونية وقلة فرص العمل للشباب وتعثر بعض المشاريع التنموية لأسباب تتعلق بغياب التخطيط السليم والتنفيذ الأمين من بعض الجهات التي أسند لها تلك الاستراتيجيات الوطنية. كما إن مراقبة التوظيف وتولي المناصب المتوسطة كالرؤساء التنفيذيين ومديري العموم أصبحت في نطاق عمل هذا الجهاز الوطني الذي وجد لتحقيق النزاهة والمحاسبة.
ومن المؤسف حقاً أن حقوق الذين تم استبعادهم من التقدم للوظائف المعلن عنها دون وجه حق والاكتفاء فقط بسحب الصلاحيات من الذين تولوا ملف التوظيف الوطني وعبثوا فيه دون رد الحقوق يشكل منعطفا وسابقة خطيرة. كما إن عدم اتباع القوانين والأنظمة في تعيين القيادات العليا في الشركات الحكومية التابعة لجهاز الاستثمار يفتح أسئلة عديدة حول حقيقة تطبيق العدالة والشفافية في تقلد المناصب.
لقد كان لجهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة دور محوري في رصد الكثير من المخالفات المالية والإدارية طوال السنوات الماضية، من هنا فقد بلغ عدد البلاغات التي قدمها المواطنون لجهاز الرقابة خلال العام الماضي (2023) عبر مختلف القنوات المتاحة 951 بلاغًا، وأُنجِز منها حتى الآن 87%، وهذا يشير إلى أهمية تعاون المجتمع العُماني وتفاعله لمحاربة الفساد ورصد المخالفات والتجاوزات المتعلقة بإهدار المال العام واستخدامه لأهداف شخصية كالحفلات الترفيهية ورحلات السفر غير الضرورية.
لا شك أن للتوجيهات السامية لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- الدور الأبرز في إطلاق يد الجهاز لمراقبة وفحص مختلف المشاريع والمصروفات والنفقات المتعلقة بالوزارات والهيئات والشركات الحكومية، ومتابعة التفاصيل الدقيقة، ثم وضعها بين يدي الحكومة ومجلس عُمان، إلى جانب- بكل تأكيد- المجتمع العُماني، من خلال “مُلخَّص المجتمع” الذي يتضمن تفاصيل مُهمة عن التجاوزات والمخالفات؛ بل حتى عن الإدانات المُتعلِّقة بالاختلاسات المالية في بعض الشركات. وإن كُنَّا نطمح في قادم الأيام أن تطال المحاسبة الجميع، خاصة من أخلَّ بالأمانة وخالف القوانين وامتدت يده إلى المحظور، مهما كبر منصبه وارتفع مقامه وشأنه؛ فالمسؤولية عن أي قصور يجب أن يتحملها رئيس الوحدة أو المشرف على الشركات الحكومية، حتى ولو كانت تلك التجاوزات لا دخل له فيها مباشرة، انطلاقًا مما يُعرف بالمسؤولية الجماعية أو التضامنية، التي تُطبَّق في مختلف دول العالم التي تحارب الفساد، فلا يُحاسب فقط المدير والموظف الصغير فقط؛ بل أيضًا من اختار وأشرف على هؤلاء مباشرةً.
لقد أكد قائد هذا البلد العظيم، غير مرة، على مبدأ المُحاسبة وعدم الإفلات من العقاب، ولا أعتقد أنَّ هناك إنسانًا فوق القانون في هذا البلد العزيز الذي نفتخر بالانتماء إليه ونفخر بحكمة سلطانه ورصانة فكره في منطقتنا؛ بل بين دول العالم قاطبة، انطلاقًا من القاعدة التي تقول “العدل أساس المُلك”.
لا شك أنَّ تبعية جهاز الرقابة المالية والإدارية لجلالة السلطان مباشرةً، قد مَنَحَ الكادر الوظيفي ثقلاً ومكانة معنوية كبيرة جعلت من هذه المؤسسة تتفنن في خدمة الوطن والسلطان، مُطبَّقة في عملها الوطني معايير الحوكمة والنزاهة والإخلاص. فتحيةً صادقةً لجميع منتسبي هذا الجهاز رئيسًا وموظفًا والذي أصبح موطنًا للتميَّز لرفع راية عُمان خفَّاقة بين الأمم، خاصةً في قيم العدالة والمصداقية والشفافية، وبالفعل نطمح إلى المزيد من الجهد والإنجاز؛ لكوننا في بداية الطريق نحو تحقيق غايات المواطن وخاصة الشباب الذين طال انتظارهم في الحصول على فرص ووظائف تحفظ لهم كرمتهم.
هذا هو المقال الثاني الذي أكتبه عن تقرير جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة ونجاحاته الملحوظة في العام المنصرم 2023؛ إذ حمل المقال السابق عنوان “عُمان تُعلن الحرب على الفساد”، وتصدره جميع المنصات الإلكترونية من حيث القراءة والتداول؛ وقد حظي- ولله الحمد- بردود أفعال واسعة النطاق.
وفي الختام.. لا يُمكن الانتصار على معركة الفساد في عُمان، إلّا بالمعالجة الصحيحة والوقوف على عدد من مشاريع الطرق والمباني الحكومية التي تعثرت منذ سنوات وتستنزف أموال الخزينة العامة، وقد يستمر ذلك لسنوات طويلة دون رقيب أو حسيب أو حتى تدخُّل في الوقت المناسب من الجهات الرقابية والمعنية، والأهم من ذلك كله تصويب ما يحصل في الشركات الحكومية من هدرٍ وإسنادٍ مُباشِرٍ دون مناقصات، فتلك بمثابة ثقوب مظلمة دخلت فيها المليارات من الأموال العامة بلا رجعة، ولو حافظنا عليها من خلال اختيار قيادات تتمتع بالنزاهة والأمانة والضمير الحي، لكان لنا شأن؛ فيُمكن أن تكون هذه الأموال التي تبخَّرت الملاذ الآمن لتشغيل كل الباحثين عن عمل في السلطنة، فضلًا عن تسديد مديونية البلاد كاملة.
د. محمد بن عوض المشيخي / أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري