أصبح مشهد الشهيد يحيى السنوار وهو يخوض معركته الأخيرة مع قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي، أيقونة تبادلها العالم عبر وسائل التواصل الاجتماعي في دلالة واضحة على أنّ السحر انقلب على الساحر؛ إذ اعتقد جيش الكيان أنه ببثه تلك اللقطات يوجّه صورة عن مصير بشع للبطل، فإذا الجميع يشاهد بأم عينيه الشهيد وهو جالس على كنبة وملثم بالكوفية الفلسطينية وقد أصيبت يده اليمنى، ومع ذلك حمل عصا ورماها على المُسيّرة الإسرائيلية التي أرسلت لتصويره. والمؤكد أنّ الكيان أراد نهاية أخرى للسنوار كأن يأسره ذليلًا أو يقتله في حفرة أو محتميًا بالمدنيين أو الأسرى ثم يتشفى فيه هو ومن سار على هواه من العرب؛ لكن الله سبحانه وتعالى أراد غير ذلك؛ فالصورة التي نشرها جنود الاحتلال لغرض التفاخر والاستعراض أضاعت على الكيان اصطناع صورة مزيفة عن لحظات الاستشهاد.
من شاهد اللقطات الأخيرة يعلم أنّ السنوار لم يكن خائفًا من الموت وإنما واجهه بكلِّ شجاعة، ولم يذل نفسه كأن يستسلم لأعدائه، فقد قاتل حتى لفظ أنفاسه الأخيرة في ساحة المعركة، وهو ما دحض ادعاءات الكيان الصهيوني التي ردّدها غير مرة، بأنه مختبئ في الأنفاق ويحتمي بالأسرى، ولم يدر في خلده أنّ العالم سيرى لحظاته الأخيرة وهو جريح ووحيد يلقى الله بالأسلوب الذي تمناه في حياته وهو نيل الشهادة، في لقطة لو عُرضت في فيلم سينمائي ربما اعتُقد أنها من الخيال.
كانت رسالة السنوار في المشهد الأخير أنّ المقاومة الفلسطينية لن تنتهي، وأنّ الشعب الفلسطيني سيظلّ يقاوم حتى المقاتل الأخير، وأنّ استشهاده لا يعني انتهاء المعركة، بل سيصبح مصدر إلهام لجميع المقاومين في العالم، خاصة للفلسطينيين، وبأنّ عليهم المقاومة حتى الرمق الأخير.
كيف وصل السنوار إلى تلك المرتبة؟ إنه الإيمان بالله وبعدالة قضيته، وبأنّ فلسطين لن تُسترد إلا بالتضحيات، وبأنّ القيادات يجب أن تكون هي القدوة الحسنة، وهي قناعات كفيلة بأن تلغي الخوف من الموت؛ فمشهدُ النهاية – كما شاهده العالم – لم يكن ليتم بدون إيمان مُطلق بما عاش من أجله، وبما يعلم أنه في انتظاره في الحياة الأخرى، مصداقًا لقول الله تعالى: (هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ۖ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا ۖ فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ)، فإما الظفر بالأعداء والنصر عليهم ونيل الثواب الأخروي والدنيوي، وإما الشهادة التي هي من أعلى الدرجات وأرفع المنازل عند الله.
أجدُ نفسي كلما تابعتُ أحداث المجاهدين والمناضلين في الأرض، أعود إلى تفسير سيد قطب لسورة «البروج» في «ظلال القرآن الكريم»، وأرى أنّ تلك الصورة تعبِّر تعبيرًا واقعًا عن معنى «الحُسنيين»؛ فالسورة تصف فئة من المؤمنين كانت جريمتُهم أنهم آمنوا بالله العزيز، فكان عقابهم أنهم أحرِقوا بالنار، لكن الأمر لم ينته عند هذا الحد، ووراءه في حساب الله ما وراءه، يقول سيد قطب: «كان في مكنة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم. ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم في الدنيا قبل الآخرة؟ وكم كانت البشرية كلها تخسر؟ كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير: معنى زهادة الحياة بلا عقيدة، وبشاعتها بلا حرية، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد. إنه معنى كريم جدًا ومعنى كبير جدًا هذا الذي ربحوه وهم بعد في الأرض. ربحوه وهم يجدون مس النار فتحترق أجسادهم، وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكيه النار، وبعد ذلك لهم عند ربهم حساب، ولأعدائهم الطاغين حساب»، وفي هذا رد بليغ على الذين يحمّلون الشهيد يحيى السنوار مسؤولية ما وقع بعد السابع من أكتوبر 2023، وكأنّ النصر سيأتي عبر المفاوضات أو الاستسلام المذل؛ فما يحدث من تضحيات ليس الخاتمة وإنما هو درب من دروب النصر الذي لن يتم إلا بتلك التضحيات.
أحرج السنوار – حيًّا وميتًا – القيادات العربية وجميع المتصهينين، وهم الذين أخذوا يزدادون ولا يخجلون، وذلك بإيمانه القوي بقضيته ولسعيه الدؤوب إلى الشهادة، ولعدم اعتماده عليهم في كفاحه ونضاله ضد عدوه الصهيوني الغاشم؛ لذا لم تكن موجة الشماتة في استشهاده مستغربة من أناس فقدوا الإحساس بانتمائهم لدينهم ولعروبتهم ولأوطانهم، وهي الشماتة نفسها التي رأيناها في استشهاد إسماعيل هنية وحسن نصر الله من قبل. ويبدو أنّ الضجة التي امتلأت بها منصات التواصل الاجتماعي التي تحمل لوحات إبداعية ورسومًا فنية أبدعها فنانون عرب وعالميون تخليدًا لاستشهاد السنوار في معركته الأخيرة ألجمت الكثيرين، لأنها أظهرت احتفاء كبيرًا به في العالم، وثناءً واسعًا على خصاله وشجاعته ووقوفه حتى النفس الأخير مقبلًا غير مدبر.
لقد أخطأ الجيش الإسرائيلي بنشره لقطات المشهد الأخير للسنوار؛ فكلُّ ما في المشهد انقلب ضد الكيان، إذ حوّل ما اعتقده نصرًا إلى هزيمة إعلامية منكرة، وهو ما جعله يجند جميع أدواته الإعلامية في محاولة يائسة لمحو المشهد من منصات التواصل الاجتماعي. ولكن كيف للكيان أن يمحو صورة ذلك المنزل والكنبة والكوفية والعصا، وكلها قد ارتبطت بالمشهد الأخير؟! تداولت بعض الحسابات أنّ الكيان الإسرائيلي نسف المربع السكني في مدينة رفح، ومن ضمنه البيت الذي استُشهد داخله السنوار. ومع انتشار مقطع تفجير إسرائيل للمنزل، كان السؤال الذي انتشر على منصات التواصل هو: هل يعتقد الاحتلال أنه يستطيع محو مشهد اللحظة الأخيرة للسنوار بتفجيره المنزل؟ وكانت الإجابة أنه واهم، ومهما صار فلن يستطيع أن يمحو تلك الصورة من ذاكرة الشعوب والأحرار ومن المحبين والمبغضين على حد سواء؛ فالصورة قد انطبعت في الأذهان لمقاوم فلسطيني واجه جيشًا ظالمًا جرارًا بشجاعة منقطعة النظير.
وإذا كان السنوار قد أضاف قيمة جديدة لرمزية «الكوفية» الفلسطينية، فإنه أعطى للعصا أيضًا قيمة؛ فكتب غيرُ واحد أنه تخليدًا للمشهد الأخير يجب إضافة مثل عربي جديد يُخلِّد هذه اللحظة التي تُختزل فيها كلُّ معاني المروءة والشجاعة والبسالة، فتقول «رميته بعصا السنوار»، أي رميته بآخر ما تملك بعدما استنفدت كلَّ الوسائل المتاحة.
يبقى أنّ الشهيد يحيى السنوار أرعب الكيان الصهيوني وسيبقى يخشاه حيًّا وميتًا، وكأنه ينتظر في كلِّ لحظة أن يخرج لهم من أطلال ذلك المبنى المهدّم؛ ويقينًا أنّ الكيان يعلم تمامًا أنّ الشعب الذي قدّم الآلاف من الشهداء وأنجب الكثير من القادة والمناضلين، بينهم الآن أكثر من سنوار وأكثر من هنية وأكثر من ياسين وأكثر من رنتيسي وأكثر من كلِّ الأسماء الشريفة التي ارتقت إلى السماء. وهذا كفيل بأن يجعله يرتعب في كلّ لحظة ويخشى من كلِّ مولود فلسطيني جديد.
إنّ المشهد الأخير لرجل قاتل حتى اللحظة الأخيرة ولم يجد وهو في النزع الأخير إلا عصاه يستدعي الفخر ليس له ولأهله وذويه والفلسطينيين وحدهم؛ بل يستدعي الفخر لكلِّ الأحرار في العالم؛ فالمشهد قدَّم درسًا عمليًّا بليغًا عن الشهادة وعن الكفاح من أجل الحرية، لم تكن الكتب والمقالات والقصائد والأفلام لتستطيع أن تقدّمه.
زاهر بن حارث المحروقي / كاتب عماني مهتم بالشأن العربي ومؤلف كتاب «الطريق إلى القدس»