بعيدا عن نظريات المؤامرة ، وما يتردد في أوساط بعض المحللين حول تفسير شكل الضربة الإسرائيلية الأخيرة علي إيران ، ولأن السياسة علم ( مثلما هي فن ) ، فأنه يمكن ببعض الجهد قراءة بعض الهيروغليفيات المنقوشة علي أحجار الشرق الأوسط .
لقد كتبت في آخر مقالاتي ( تحت عنوان هزهزة إستراتيجية ) ، بعد الضربة مباشرة ، مستبعدا أن إسرائيل قد خضعت لتوصيات واشنطن بأن تكون الضربة ” مخففة ” تسمح لكل طرف أن ” يتفاخر ” بإنتصار ما ، وذكرت أن نتنياهو كرر أكثر من مرة ” أنه يستمع لنصائح واشنطن ، ولكنه لن يطبق سوي ما يراه مصلحة صهيونية “..
وفي ختام المقال نوهت إلي أن أسباب الشكل الذي اتخذته الضربة متعددة ، قد يكون من بينها بالفعل ضغوط أمريكية ، وفيها تعقيدات حسابية أخري ، ولكنني بعد مزيد من البحث ، أجد أيضا أنها قد تحمل نوعا من الرقص الدبلوماسي بعد توصل تل أبيب وطهران إلي نغمة تانجو تسمح لكليهما بمساحة للتعايش.
لقد أتاح شكل الضربة الإسرائيلية لكلا الطرفين إن يزعم بأنه حقق ” انتصارا ” بشكل ما ، مع تبادل ما قد يشبه غزل دبلوماسي خشن ، قد يتحول تدريجيا إلي غزل ناعم .
وصف البيت الأبيض الضربات الإسرائيلية بأنها “تمرين للدفاع عن النفس”، وقال مسؤول كبير في الإدارة الأمريكية إن الولايات المتحدة عملت مع إسرائيل لتشجيعها على تنفيذ رد “محدد ومتناسب”.
بينما قال الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان إن إيران سترد على الهجوم -لكن بشكل متناسب-، ممهدا لذلك بالقول إن طهران لا تسعى للحرب، ولكنه لم يفسر التناقض المنطقي بين نصفي التصريح ، فكيف سترد إيران ، إذا كانت لا تسعي للحرب ؟.
وقد أكد هذا الغموض ما قالته وزارة الخارجية الإيرانية من أن إيران “لها الحق وملزمة بالدفاع عن نفسها”، ووصفت الهجوم بأنه انتهاك للقانون الدولي، لكنها في نفس الوقت أقرّت بأن طهران تعترف “بمسؤولياتها تجاه السلام والأمن الإقليميين”.. وهذا كلام منزوع الأشواك .
ومن ناحية أخري ، اجتمع البرلمان الإيراني في جلسة مغلقة لبحث كيفية التعامل مع تل أبيب. وذكر رئيس البرلمان، محمد باقر قاليباف، أن الرد مؤكد لكنه سيراعي ما وصفه بالاعتبارات الضرورية.. فما هي تلك الإعتبارات ؟.
وقبل الإستطراد في ذلك الإحتمال الذي يبدو أنه يتبلور ، يجب أن أؤكد استمرار اهتمامي بإمكانية الإستفادة من وزن طهران في معادلة توازن القوي في المنطقة ، وضرورة التوصل معها إلي صيغة تضمن خلق نظام أمني يحقق مصالح أطراف تري في التمدد الصهيوني تهديدا لأمنها القومي ، وفي المقدمة منها مصر وتركيا .
إلا أن تاريخ العلاقات الدولية يعلمنا أن التحالفات لا تصنعها احلام الكسالي أو أوهام الضعفاء ، وإنما تفرضها حقائق القوة ، وقوة الإرادة السياسية للاعبين السياسيين .
فمن البديهي أن إيران ، في نهاية الأمر ، لن تتطوع بحماية الأمن القومي لأطراف مشلولة غير راغبة في تغيير قواعد اللعبة ، وسوف يكون من الاسهل لها ، وما يحقق لها منفعة ذاتية أن تتوصل إلي صيغة لمراقصة الوحش وترويضه حماية لمصالحها الأنانية .
ويؤكد ذلك ما قد لا يعرفه الكثيرون من أن هناك تيار براجماتي واسع في إيران ، يرغب في التعامل مع معطيات المعادلات الحالية كما هي ، بحيث يصبح هناك “تسليم ” ، بعبور طهران عتبة القنبلة النووية ، وتكون الرؤية المستقبلية للشرق الأوسط بأنها تلك المنطقة المحصورة بين فكين نوويين ، يحققان نوعا من الردع المتبادل بينهما ، بغض النظر عن مصالح باقي أعضاء الإقليم ، ولا عزاء للأغبياء .
معصوم مرزوق