في ظل التغيرات الديناميكية التي يشهدها النظام الأمني العالمي، تتجه دول الخليج نحو إعادة تقييم استراتيجياتها الأمنية وتعزيز استقلاليتها في مواجهة التهديدات الإقليمية، إن تصاعد التوترات مع إيران، والانخراط المتزايد لأنصار الله (الحوثيين) في الصراعات، فضلاً عن تزايد الاعتماد على القوى الناشئة مثل الصين وروسيا، تضع دول الخليج أمام تحديات جديدة تتطلب استجابة فعالة.
في هذا السياق، تسعى هذه الدول إلى تعزيز قدراتها الدفاعية وتطوير شراكات استراتيجية، مع المحافظة على روابطها التقليدية مع الولايات المتحدة الأمريكية، وسنتناول في هذا المقال التحولات الحالية في سياسات الأمن والدفاع في الخليج، وكيف تؤثر هذه التطورات على العلاقات الإقليمية والدولية في ظل سعيها إلى حماية مصالحها الوطنية.
فقد شهدت الساحة الإقليمية تحولات عميقة منذ السابع من أكتوبر، حينما أطلقت حركة حماس هجوماً مفاجئاً على الكيان الصهيوني، مما أدى إلى تصاعد الصراع العسكري الذي استمر حتى اللحظة، إذ أتى هذا الهجوم كاشفاً عن تغيرات جذرية في المشهد الأمني، حيث لم يقتصر تأثيره على حدود الصراع الفلسطيني-الصهيوني فحسب، بل أيضاً على التوازنات الأمنية الإقليمية، فقد رد الكيان الصهيوني بقوة على هذا الهجوم، مما أعاد تشكيل التوازنات الأمنية في منطقة الشرق الأوسط، وألقى بظلاله على استراتيجيات دول مجلس التعاون الخليجي، مما استدعى إعادة النظر في مواقفها وأولوياتها الأمنية.
تصاعد التوترات الإقليمية
تعمقت الأزمة الصهيونية – الفلسطينية مع تصعيد إيران لعملياتها الهجومية ضد الأهداف الصهيونية، مستخدمة في ذلك صواريخ وطائرات مسيّرة، وذلك كنوع من الرد على الهجمات الصهيونية على منشآتها المرتبطة بسفارتها في العاصمة السورية دمشق، هذا التصعيد الإيراني لم يكن مجرد تحذير للكيان الصهيوني، بل حمل أيضاً رسالة واضحة لدول الخليج حول القدرات العسكرية التي تمتلكها طهران، مما أثار مخاوف كبيرة بشأن التهديدات المحتملة التي قد تواجهها هذه الدول، وعلى الرغم من خطواتها التصالحية الأخيرة مع إيران، فإن هذه الدول لا تزال تحتفظ بحذرها، مما يعكس قلقها المتزايد من التوترات المتصاعدة في المنطقة.
ورغم أن اتفاق المصالحة بين المملكة العربية السعودية وإيران، الذي تم برعاية الصين في مارس 2023، قد أظهر مساراً إيجابياً نسبياً، إلا أن الهجوم الإيراني الأخير أدى إلى إحياء المخاوف التقليدية لدى دول الخليج، إذ أدركت هذه الدول أن مجرد حماية حدودها البرية لم تعد كافية لضمان أمنها في ظل التهديدات المتزايدة، لذلك، أصبح من الضروري تبني استراتيجيات أكثر شمولاً تتضمن تعزيز الدفاعات الجوية، ومراقبة المسارات البحرية، وتطوير شراكات دفاعية تتجاوز الحدود الوطنية.
تطوير استراتيجيات الدفاع
مع تزايد الاعتماد على الطائرات المسيّرة في النزاعات الحديثة، بدأت دول الخليج في التركيز على تطوير تكنولوجيا الدفاع المتقدمة واستثمارها في أنظمة المراقبة الذكية، هذا التحول ليس فقط ضرورة استراتيجية، بل أيضاً خطوة تعزز قدرة هذه الدول على التصدي للمخاطر المتزايدة وتوفير استقرارها الداخلي والخارجي، فعلى سبيل المثال، قامت دول مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية بتعزيز استثماراتها في الصناعات الدفاعية، وسعت إلى تطوير قدراتها العسكرية، مع التركيز بشكل خاص على أنظمة الدفاع الجوية، التي أصبحت أساسية في مواجهة التهديدات المتزايدة من الطائرات المسيّرة.
اختبار العلاقات مع القوى الكبرى
مع تزايد التوترات بين إيران والكيان الصهيوني، يظهر خطر اندلاع مواجهة عسكرية قد تؤثر بشكل كبير على استقرار دول الخليج، في هذا السيناريو، سيكون على دول مجلس التعاون الخليجي مواجهة تحديات معقدة، حيث قد تتعرض لمزيد من الضغوط، بما في ذلك تداعيات تدخل الولايات المتحدة الأمريكية، ومع تقاربها الدبلوماسي الأخير مع إيران، ستجد هذه الدول نفسها في موقف يتطلب تحقيق توازن دقيق بين علاقاتها الاستراتيجية ومصالحها الوطنية.
كما تشكل الأحداث الأخيرة في اليمن علامة واضحة على هذا التوجه، فعلى الرغم من الضغوط الأمريكية لإنهاء الدعم العملياتي ضد الحوثيين، لا تزال دول الخليج تشعر بالقلق من تصاعد الأنشطة الحوثية التي تهدد مصالحها، ففي عام 2019، استهدف الحوثيون منشآت النفط السعودية في بقيق وحقل خريص، الأمر الذي أعاد طرح تساؤلات حول فعالية الدعم الأميركي لدول الخليج، وتجددت هذه المخاوف بعد الهجمات على العاصمة الإماراتية أبو ظبي في عام 2022، مما دفع هذه الدول لإعادة تقييم اعتمادها على الدعم الأميركي.
استراتيجيات جديدة لمواجهة التهديدات
تجسد هذه الديناميكيات تحولات أوسع في السياق الأمني، حيث بدأت دول الخليج في استثمار مبالغ ضخمة في تطوير صناعاتها الدفاعية، توقيع اتفاقيات لشراء الطائرات المسيّرة التركية، بالإضافة إلى تعزيز التعاون مع شركات دفاع محلية وأجنبية، يشير إلى رغبة هذه الدول في تحقيق الاكتفاء الذاتي وتعزيز قدراتها العسكرية، كما يُظهر هذا التوجه أيضاً استجابة مباشرة للتهديدات الأمنية المتزايدة، وهو ما يتطلب من دول الخليج الابتكار والتكيف مع المستجدات.
بالإضافة إلى ذلك، فإن التطورات الأخيرة في العلاقة مع القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين تلقي الضوء على التحولات في الديناميات الأمنية. حيث أظهرت السعودية والإمارات مؤشرات على إعادة تقييم شراكاتها، سواء من خلال التعاون العسكري مع روسيا أو الانفتاح على الصين، حيث يشير ذلك إلى إدراكها أن التوازنات العالمية تتغير، وأن الاعتماد على طرف واحد قد لا يكون كافيًا لضمان الأمن القومي.
صراع النفوذ الإقليمي
إضافة إلى ذلك، يُظهر التصعيد بين إيران والكيان الصهيوني كيف أن الصراع الإقليمي لم يعد محصوراً في الحدود التقليدية، بل أصبح يؤثر على سياسات دول الخليج بشكل مباشر، على سبيل المثال، مع ارتفاع التهديدات من الحوثيين، أصبح لدول الخليج وعي أكبر حول ضرورة حماية سواحلها وممراتها البحرية، فقد تسببت هجمات الحوثيين على السفن في البحر الأحمر، بالإضافة إلى تزايد الأنشطة العسكرية الإيرانية، في تعزيز الجهود الخليجية لتعزيز أمن الملاحة البحرية.
يُعتبر هذا التحول في التفكير الأمني خطوة استراتيجية لدول الخليج، حيث أدركت أن التهديدات البحرية باتت تشكل خطراً مباشراً على اقتصادها ومصالحها السياسية. لذا، اتجهت نحو توسيع شراكاتها البحرية، وتعزيز قدراتها على مواجهة التهديدات غير التقليدية.
التوجه نحو التنوع في العلاقات الدولية
مع ذلك، من المهم عدم المبالغة في تقدير تأثير هذه التطورات. التحول في الديناميات الأمنية يعبر عن تعديل في الشراكة مع واشنطن، وليس تدهوراً كاملاً، فبينما تسعى دول الخليج نحو المصالحة مع إيران وتعزيز التعاون مع القوى الكبرى مثل الصين وروسيا، فإنها تظل مرتبطة بأميركا عبر اتفاقيات تسليح جديدة، مما يضمن استمرار الروابط الدفاعية، وبشكل عام، تتبع دول الخليج نهجاً مرناً في علاقاتها، حيث تسعى إلى تنويع شراكاتها مع الحفاظ على جوانب من تعاونها التقليدي مع الولايات المتحدة الأمريكية، في إطار نظام دولي يتجه نحو التعددية القطبية بدل سياسة القطب الواحد.
وفي ضوء كل هذه التحولات والتحديات، بات من الواضح أن دول مجلس التعاون الخليجي أمام مفترق طرق، إذ عليها أن تعيد النظر في استراتيجياتها الأمنية والسياسية، وأن تبني علاقات أكثر توازناً مع القوى الكبرى، سواء كانت الولايات المتحدة أو إيران أو غيرها، إن الأزمات المتزايدة تشير إلى أن مستقبل المنطقة سيكون متأثراً بشدة بالتغيرات في السياسات الإقليمية والدولية، مما يتطلب من دول الخليج تطوير استراتيجيات أمنية مرنة وقادرة على التكيف مع الظروف المتغيرة.
وفي نهاية المطاف، يتطلب المشهد الأمني المتغير في الشرق الأوسط من دول مجلس التعاون الخليجي التفكير الاستراتيجي العميق، واستشراف المستقبل من خلال رؤية متكاملة تسهم في تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة، وذلك من خلال تعزيز التعاون بين الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي وتبني سياسات دفاعية مبتكرة، يمكن لهذه الدول أن تضمن استقرارها وتحقق تطلعات شعوبها نحو مستقبل أكثر أماناً وازدهاراً.
من هنا، يتضح أن دول الخليج تواجه مرحلة حاسمة في تطوير استراتيجياتها الأمنية، ومع تصاعد التحديات الإقليمية، باتت هذه الدول تدرك الحاجة إلى تعزيز قدراتها الدفاعية وتوسيع نطاق شراكاتها الدولية، بينما تستمر علاقاتها التقليدية مع الولايات المتحدة الأمريكية، فإنها تتجه نحو التنويع في تحالفاتها مع قوى مثل الصين وروسيا، مما يعكس رغبتها في استقلالية أكبر في اتخاذ القرارات الأمنية.
بالتالي، أصبح من المؤكد أن هذه التوجهات ستشكل معالم جديدة في الجغرافيا السياسية للمنطقة، حيث يتعين على دول الخليج العربي التكيف مع الواقع المتغير وإيجاد توازن بين مصالحها الوطنية والتحديات المتزايدة، وفي نهاية المطاف، ستحدد قدرة دول الخليج على تعزيز أمنها واستقرارها كيفية تعاملها مع التحولات المستقبلية في نظام الأمن الإقليمي والدولي.
عبد العزيز بدر عبد الله القطان / كاتب ومفكر – الكويت.