وقد دخلنا في شهر نوفمبر، تتوالى المناسباتُ الوطنيةُ والعامة، في هذه الفترةِ الشتويةِ والباردةِ من السنة، بِدأً بالثامن عشر من نوفمبر، العيدِ الوطني المجيد، وصولا للذكرى الرابعةِ لتولي جلالة السلطان هيثم -سدد الله خطاه- الحكم، والتي تَحُلُّ يوم ١١ يناير ٢٠٢٥ م، والتي عادةً ما يصحبها مهرجانٌ طلابيٌّ خاص، كلَّ أربع سنوات، يُعَبِّرُ به الطلبةُ عن وفائهم لسلطانهم، مع ليالي مسقط، وهو موسمٌ اعتادت عمانُ إقامتَه، سياحةً وترفيها للأسر.
تُقْبِلُ علينا كلُّ هذه المناسباتِ، والتي ينتظرها الجميعُ في عمان، في مقامٍ غيرِ ِالمقام، واستعدادٍ نفسيٍّ -شخصيٍّ وجمعيٍّ- غيرِ الاستعداد، ولأنه لكلِ مقامٍ مقالٌ، فمقامُ اليوم لا يتحملُ هذه الاحتفالاتِ بمزاجها السابق، وإقامتُها في غير مقامِها وسياقها قد يَوَلِّدُ ردةَ فعلٍ عكسية، فبدلَ أن تُوِثِّقَ اللُّحمةَ بين القيادة والشعب، وتُقَوِّيَ العُروةَ بين الرسمي والشعبي، فإنها قد تعملُ على زعزعة هذين الأمرين الجليلينِ، وتُحْدِثُ شرخا غائرا، رَدمُه قد يستغرق وقتا وجهدا كبيرين.
إنَّ مقامَ الساعة هو مقامُ النصرةِ في الدين؛ (وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلۡبَغۡيُ هُمۡ يَنتَصِرُونَ (٣٩) الشورى)، ومقامُ النصرةِ في الإنسانية، لبعضِنا الذي يُذبَحُ، ودمائِنا التي تُهرَق، وشيوخِنا الذين يُعَذَّبُون، ونسائِنا التي تباد، وأطفالِنا الذين يحرقون، ومساجدِنا التي تنسف، ومستشفياتِنا التي تُهْدَم في غزة العزيزة، وفي فلسطين الغالية، وقد لحقت بها لبنانُ الحبيبة.
إن ما يُراقُ هناك ليس ماءً، بل هو دمٌ عزيز، والأعدادُ التي نراها في الشاشاتِ ليست أرقاما، بل هي أنفسٌ بأحلامٍ وذكريات، والدمُ العربيُّ الواحدُ، وثقافتُنا الواحدة، ومصيرُنا الواحد، ومقدساتُنا المشترَكةُ، وامتدادُنا التاريخي والجغرافي والعقديُّ ليس ترفا ولا سرابا، بل حقيقةٌ مطلقة.
إننا في عمانَ وكلِّ الدول الإسلامية والعربية أولياءُ دمٍ، وأصحابُ قضيةٍ، وأبناءُ أرضٍ وحُرماتٍ تُنْتَهكُ على الهواء مباشرة، نعيشُ تكالبَ الطاغوتِ العالمي الصهيوني علينا، نحن العربَ والمسلمين، بتصريحاتِ قياداتِه الرسميةِّ ووزرائِه، وإنَّ العدوَّ الغاشمَ يراقب مواقفَنا عن كثب، ويتربصُ بنا، فإنْ رأى منا جديةً وألمًا، ينعكسُ علينا في يومياتنا وحياتنا، تزلزلَ وخاف وارتعد، وقلَّ تهوره، وإن رأى أصحابَ الدم والقضيةِ لاهين غافلين في يومهم، مشغولين في ترفيههم، وكأنَّ شيئا لم يكن، فإنَّ العدوَ المجرم سيستبد ويعربد ويسفك الدماء مضاعفا، ويتحمل أولياءُ الدم -نحن العالمَ الإسلاميَّ والعربيَّ ودولَه- نتائجَ هذه العربدةِ والطغيان، وإثمَه، أمامَ الله والتاريخ.
لقد أدرك جلالتُه ذلك البُعدَ المعنوي، والواجبَ الأخلاقي والشرعيَّ علينا كأمة عمانية عند انطلاق العدوان الصهيوني في بداياته قبل سنة من الآن على أهلنا في غزة، فوجَّهَ بمنع كل أنواع المهرجانات والترفيهِ والأهازيجِ الوطنية، وعَلَّقَتِ الأوبرا فعالياتها، وتم إلغاءُ ليالي مسقط (مهرجان مسقط)، واقتصرَ الاحتفاءُ بالعيد الوطني على ما يناسبُ اللحظةَ والمقام، وهو العرضُ العسكري بالتشريف السامي لجلالته، وكانت لفةً كريمة، ورسالةً عظيمة وحازمة، وموقفاً شامخا، له أثرُه العميق والقوي، والذي حافظ على هذه اللُّحمةِ والوحدةِ بين الشعب وقيادته.
اليومَ وبعدَ أكثرَ من عامٍ من بدءِ العدوان والإبادة على غزة، لم يتحسنِ الوضع، بل باتَ أسوءَ مما كان، ليَشملَ الضفةَ ولبنان، فبينما بدأ العدوُّ المجرم عدوانه على غزة متربصا من العداءات والتهديدات وردات الفعل، نافيا استهدافَه للمستشفيات والبنى التحتية، محاولا جهدَه التغطيةَ على إرهابه و إجرامه، ولو بروايات وشهادات كاذبة، مُعْمِلًا في سبيلِ ذلك إعلامَه، نراه اليومَ قد ارتفع عنه الحياءُ بعد تعطيلِ المؤسسات والقوانينِ الدولية، وبيانِ أنها “تفق برزة”، وحِبرٌ على ورق، عندما يتعلق الأمر بالعرب والمسلمين، وضمانِ حمايةِ أكبرِ نظامٍ إرهابيٍّ وإجرامي في العالم (الولايات المتحدة الأمريكية)، فأصبح لا يبالي ما يفعل، وكيف يفعل، بعد ما أمن العقوبةَ، وأساء الأدب، ووجد أصحابَ القضية وأولياءَ الدم (العربَ والمسلمين) ملتهين، إما عميلا خائبا خائنا، بات مطيةً يركبها الكيان الصهيوني المجرم، يَتَحَزَّقُ به، أو جبانا رعديدا يتحسس موضع قدمه، وبناتِ ألفاظه.
أمهرَجانٌ طُلابيٌّ في ظِلِّ حرمان أُلُوفٍ من أبنائنا وبناتنا الطلبةِ من التعليم للسنة الثانية على التوالي في غزةَ الجريحة؟! أمهرجانٌ طلابيٌّ وقد استشهد منهم ما يزيد على أحدَ عشرَ ألفا، ودُمِّرَت ٤٧٠ مدرسة وجامعة حتى يومِ ٣٩٠ من الإبادة؟! ما هي الرسالةُ التي يقدمُها؛ … طلابُنا هنا لطلابِنا هناك؟! معلمونا هنا لمعلمينا هناك؟! وزارةُ تربيتِنا هنا لوزارة تربيتنا هناك؟! ماذا يقول كلُّ هؤلاء لكلِّ أولئك؟! وعمانُ باتت وما زالت المتنفسَ المعنوي الكبير، الذي يمد غزةَ وأهلها بالأمل، ويقوي فيهم الصمودَ، بموقفها المشرف والداعم حكومةً وشعبا، على رغم الجراحاتِ والآلامِ، والتخاذلِ والعمالةِ والخيانةِ الشاهرةِ الظاهرةِ التي مارسها إخوةُ العروبة والدين، حتى بمجرد الدعاء!
أليالٍ لمسقطَ ترفيهيةٌ، تُحييها كياناتٌ صهيونيةٌ، أو لا تُحييها، في ظِلِّ العَتْمَةِ التي تعيشُها غزةُ الجريحةُ، الغارقةُ في الظلامِ والدماءِ والأشلاء؟! أبعدَ صحوةٍ ولو جزئية، ولو متأخرةٍ، ولو بتصريحاتٍ، ودعواتٍ لِقِمَةٍ طارئة صدرت مؤخرا من بلدان الترفيه، لعل ضميرا بدأ يصحو فيها، وحياءً بدأ يطفو، وغزةُ تُذبَح، يرتفعون هم، وننتكس نحن في عمانَ من القِمَّةِ -في الموقف- إلى القاع؟!
إني أُعيذُ هذه البلدةَ الطيبةَ، وقيادتَها وأهلَها من الحَوْرِ بعد الكَور، والضِّعَةِ بعد الرِّفعة، والإحجامِ بعد الإقدام، والنُّكوصِ بعد الشخوص، وأدعو القائمينَ الرسميينَ على هذه الفعالياتِ والأنشطةِ والجهاتِ المؤثرةِ عموما وعلى رأسهم جلالتُه حفظه الله دعمَ دعوتي هذه، بالانخراطِ والثباتِ والتمسكِ بما وَصَفَهُ المصطفى صلى الله عليه وسلم في علائقِ المؤمنين بعضِهم ببعض: (مثلُ المؤمنينَ في تَوَادِّهم وتَراحُمِهِم وتَعاطُفِهم مثلُ الجسدِ، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسدِ بالسهرِ والحُمَّى)، ومن التراحمِ والتعاطفِ والشكوى التراجعُ عن المهرجان الطلابيّ، وعن ليالي مسقط، وتوجيهُ المبالغِ المخصصةِ لنصرةِ غزةَ وإعمارِها، والاكتفاءُ بما وَجَّهَ له السلطانُ في العام الفائت بالعرض العسكري، إذِ المقامُ مقامُ حربٍ جائرةٍ على جنسنا العربي، وعلى ديننا الإسلام وعلى مقدساتنا، والعرضُ العسكري يناسبُ مقامَ هذه الحربِ المسعورةِ، وذلك هو الأوجهُ والأوجبُ والأحبُّ، فإنْ تعذَّرَ، فلا أقلَّ من تكييفِها لمناسبةِ مقامِ الإبادةِ في غزة، عَبرَ لوحاتٍ وفقراتٍ صريحة، تُرسل رسائلَ صمودٍ قوية لغزة وطلابها ومعلميها ومدارسها وأسرها، ورسالةَ تحدٍّ للعدو اللئيم، الكيانِ الإرهابي، ولا يزعم زاعمٌ متعجِّلٌ أنّ هذا تسييسٌ للتربيةِ، فالسياسةُ لها دُوْرُها ومؤسساتها، وتعنى بالتعامل المباشر والتعاطي مع مقابلها من الدول الأخرى، أما هذه فعقيدةٌ، تختُها القرآن، وعمودها الإيمان، وميدانُها التربيةُ والتعليمُ، والسلوكُ والتعبيرُ، عقيدةٌ يهتمُّ لها الصغيرُ والكبيرُ، وتتربى عليها الأجيال، تمامًا كما تتربى على المواطنةِ الصالحة، وأن يكونَ ريعٌ لغزةَ كبيرٌ من مدخولها، يُعلنُ عنه، ويُرَوَّجُ له، حتى لا تفشلَ هذه الليالي، ويُحْجِمَ الناسُ عنها لأنها خارج سياقها، فضلا عن خوفِ كسبِ إثمِ الدنيا والآخرة لمنظميها، بما سيتسببون به من كسرِ القلوبٍ المكلومة في أرض الرباط، بل يُعلَنُ أنها “ليالي مسقط” في دعم غزة، مطهرةً من رجسِ الصهاينة وداعميهم، وقلةِ الحياء والعبث، أسريةً راقيةً طاهرة، فإنه إن عجزت مدافعُنا وصواريخُنا وطائراتُنا أنْ تَدُكَّ هذا العدوَ المجرم، والوحشَ القبيح، والكيانَ المحتل الغاشم لفلسطين، في معسكراته وقواعده، وعجزت دبلوماسيتُنا أن تسجل هدفا وموقفا قويا ضد داعميه الأشرار، أمريكا والغرب عموما، باستدعاءِ سفرائهم أو طردهم، أو التضييقِ على مصالحهم، أو الانفكاكِ عن دولارهم، أو بإقامةِ تَكَتُّلٍ مضادٍّ، يعملُ على استنقاذ المؤسسات الدولية، ونصرةِ العدل الدولي، ونجدةِ الحق وأهليه، أو غيرِ ذلك، لحساباتٍ تعلمها الحكومة والمسؤولون المؤتَمنون، فلا يعجز داخلُنا أن يبقى شامخا بولايته للدم، ونصرته للمظلوم، فلا تصيبُه عدوى بعضِ الدول العربية الشقيقة، في ترفيهها ولياليها، وفي قَعرِ ما وضعت نفسها فيه، وانحطت به إليه من حالٍ بئيس، وموقفٍ مخزٍ مقزز، فبينما غزة تُبادُ وتُذبَحُ، عواصمُها في ترفيهها ترقصُ وتترنح، عافاها اللهُ وعافى جميعَ دولنا العربية والإسلامية، وهدانا جميعا لنصرته ومقدساته ودينِه وأهلِه، والإنسانِ عموما، وأداءِ الواجبِ المنوطِ بنا كما يجب، فإنَّ هذا من مقاماتِ الوفاء، ومنازل الشرفاء، إنه سميع عليم.
عبد الحميد بن حميد بن عبد الله الجامعي
السبت
٢٩ ربيع الآخر ١٤٤٦ هـ
٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م