تُعتبر الشريعة الإسلامية نظاماً متكاملاً ينظم حياة الفرد والمجتمع، حيث تستند إلى مبادئ القرآن الكريم والسنة النبوية، كما تتجاوز الشريعة الأبعاد القانونية لتصل إلى مستويات أعمق من الأخلاق والقيم، مما يجعلها ليست مجرد مجموعة من القواعد، بل فلسفة حياة تتناغم مع الفطرة الإنسانية، وإن فهم مقاصد الشريعة الإسلامية يكمن في استيعاب أهدافها الأساسية التي تتجلى بوضوح في آيات القرآن الكريم، والتي تُعبر عن سعة رحمة الله تبارك وتعالى وحكمته في خلق الكون.
ويتضمن القرآن الكريم تعاليم شاملة تهدف إلى تحقيق العدل، والحرية، والأمن، والمصلحة العامة، وهو ما يُعبر عنه بمصطلح “المقاصد”، إذ يسعى القرآن الكريم إلى توجيه الإنسان نحو الخير في كل مجالات حياته، من العبادة إلى التعاملات الاجتماعية، ومن الأخلاق إلى الاقتصاد، مما يعكس توازناً دقيقاً بين الروح والمادة.
بالإضافة إلى ذلك، إن الإعجاز القرآني يُبرز قدرة الله عزّ وجلّ المطلقة، حيث يتجلى ذلك في تنظيم الآيات القرآنية بشكل يُعبر عن عمق الفهم وثراء المعاني، كما يضع القرآن الكريم أهداف الحياة بطريقة شاملة، تُغطي مختلف جوانب الوجود، بدءاً من النفس الفردية وانتهاءً بالكون الكبير، فالآيات الكريمة ليست مجرد نصوص دينية، بل هي خريطة طريق تضيء للإنسان مسارات الحياة وتساعده في فهم دوره في الكون وعلاقته بالخالق.
وبهذا الفهم العميق، يُصبح القرآن الكريم مرجعية لا غنى عنها لكل باحث عن الحق والحقيقة، وهو ما يُعزز من أهمية دراسة الشريعة الإسلامية ومقاصدها من منظور قرآني، حيث يفتح آفاقاً جديدة للتأمل والتطبيق في حياتنا اليومية، ومن هذه المقدمة الغنّاء نستكمل تفسير سورة النمل، مبرزين جماليات الآيات وبلاغتها وإعجازها:
بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ(78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۖ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ(79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ(80) وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ ۖ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ(81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ(82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ(83).
تتحدث الآيات من سورة النمل، بدءاً من الآية 78 إلى الآية 83، عن عدة مواضيع تتعلق بالحق الإلهي والإنذار للناس، وتُظهر عظمة الله تبارك وتعالى وعلمه الواسع، كما تُبرز أهمية الإيمان واليقين في الآيات الإلهية.
وفي الآية 78، يُبين الله سبحانه تبارك وتعالى أنه هو الذي يقضي بين الناس بحكمه، فهو العزيز الذي لا يُغلب، والعليم بكل شيء، مما يعكس سلطته المطلقة وعلمه الواسع بكل ما يجري في الكون، هذا الحكم الإلهي هو جزء من سنته التي لا تتغير، حيث يُفضي إلى فصل الحق عن الباطل، ويُظهر للناس عواقب أفعالهم.
أما في الآية 79، فتوجه الخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، مُشيراً إلى ضرورة التوكل على الله عزّ وجلّ، لأنه على الحق المبين، وهنا، يتضح أن الإيمان العميق والثقة بالله تبارك وتعالى تُعدان من أهم أسباب النجاح في الدعوة إلى الله العزيز، إذ تُعزز من موقف المسلم في مواجهة التحديات.
ثم تأتي الآية 80 لتشير إلى حدود قدرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هداية الناس، حيث تُوضح أنه لا يمكنه أن يسمع الموتى أو الصم الذين ينكصون عن الحق، كما يُظهر هذا المعنى أهمية الإرادة الشخصية في الإيمان، فالأشخاص الذين يرفضون الحق ويولون مدبرين هم بمثابة الموتى في قلوبهم، ولا يستطيع أحد هدايتهم إلا إذا أرادوا ذلك.
وتتناول الآية 81 مسألة الهداية، حيث تُؤكد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس هادياً للعمى عن ضلالتهم، فالهداية ليست فقط في القدرة على الإرشاد، بل تتطلب الإيمان والاستجابة من القلب، وإن الذين يستمعون هم أولئك الذين يؤمنون بآيات الله تبارك وتعالى، وبهذا يتحولون إلى مُسلمين يُطيعون أوامر الله عزّ وجلّ.
وفي الآية 82، يُذكر حدث عظيم يُشير إلى يوم القيامة، حيث تُظهر الآية أن الله عزّ وجلّ سيخرج دابة من الأرض تُكلم الناس بأنهم لم يكونوا يوقنون بآيات الله تبارك وتعالى، هذا التشبيه يُظهر عظمة الحقائق التي ستُفضح في ذلك اليوم، وكيف أن الجحود وعدم الإيمان سيفضي إلى عواقب وخيمة.
أما في الآية 83، فتؤكد على مشهد يوم الحشر، حيث يُجمع الله عزّ وجلّ من كل أمة فوجاً من المكذبين بآياته، هذا التجمع يمثل وقوف الناس أمام الله تبارك وتعالى، حيث سيوزعهم في صفوف وفقاً لأفعالهم في الدنيا، مما يعكس عظمة يوم الحساب والجزاء.
بالتالي، ومن خلال هذه الآيات، نرى ترابطاً بين الحكمة الإلهية، ودور النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في توجيه الناس، وحدود القدرة على الإيمان، وكذلك صورة يوم القيامة كفاصل بين الحق والباطل، كما يُظهر هذا النص القرآني كيف أن الإيمان واليقين في الله تبارك وتعالى وآياته هما السبل التي تُنجي الإنسان من العذاب، بينما الرفض والتكذيب يقودان إلى الهلاك في الدنيا والآخرة.
كما تحتوي الآيات من سورة النمل (78-83) على العديد من المواعظ والحكم التي يمكن استخلاصها، والتي تتعلق باليقين في الله تبارك وتعالى، وأهمية الإيمان، وحدود قدرة الإنسان على الهداية.
بالإضافة إلى ذلك، تُظهر الآية 78 أن الله هو الذي يقضي بين الناس بحكمه، مما يعكس عدله ورحمته. يُعلمنا هذا أن العدل الإلهي سيكون حاسماً في يوم القيامة، مما يحثنا على الالتزام بالأخلاق والعدالة في حياتنا، أما في الآية 79، يُظهر الله عزّ وجلّ أهمية التوكل عليه، مما يُعزز الثقة في الله في مواجهة التحديات، وهذا يُعلمنا هذا أن الإيمان بالله تبارك وتعالى والاعتماد عليه هما السبيل لتحقيق النجاح، حتى عندما تبدو الأمور صعبة.
وتشير الآية 80 إلى أن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يستطيع أن يُسمع الموتى أو الصم الذين ينكصون عن الحق، هنا، نتعلم أن الهداية تحتاج إلى استجابة من القلب، وأن الإرادة الفردية تلعب دوراً كبيراً في الإيمان، كما تؤكد الآية 81 على أن الهداية لا تأتي إلا من خلال الإيمان بالآيات، وتعلمنا هذه الآية أن التفاعل مع الحق يتطلب إيماناً داخلياً، وأن الله تبارك وتعالى يختار من يستجيب لدعوته.
أيضاً، تشير الآية 82 إلى ظهور دابة من الأرض تُكلم الناس، مما يُبرز أهمية اليقين في آيات الله عزّ وجلّ، حيث يُعلمنا هذا أن الحقائق ستظهر يوم القيامة، وأن النكران في الدنيا سيقود إلى الندم في الآخرة، وفي الآية 83، يتم جمع المكذبين يوم القيامة، مما يُظهر أن كل شخص سيتحمل مسؤولية أفعاله، كما يُعلمنا هذا أن علينا أن نكون واعين لأفعالنا واختياراتنا، وأن كل إنسان سيُحاسب وفقاً لأفعاله، وبشكل عام، تُعتبر هذه الآيات دعوة للتفكر والتأمل في أهمية الإيمان، والعدالة، واليقين في الحقائق الإلهية، وتعزيز العلاقة بين العبد وربه.
وتحتوي الآيات من سورة النمل (78-83) على دلالات بلاغية وإعجاز لغوي يعكس عظمة القرآن الكريم، ففي الآية 78، يُستخدم فعل “يقضي” ليظهر قوة الله تبارك وتعالى وحكمته، حيث يتضمن الفعل معنى الفصالة بين الحق والباطل، مما يُبرز عظمة القضاء الإلهي الذي لا يمكن أن يتأثر بمشاعر البشر أو آراءهم، كما تعبر كلمة “عزيز” عن القوة والسيطرة، مما يوحي بأن حكم الله عزّ وجلّ لا يمكن أن يُعصى، بينما كلمة “عليم” تشير إلى العلم الواسع الذي يحيط بكل شيء، مما يزيد من يقين الناس بحكمة الله في قضاءه.
وفي الآية 79، يأتي فعل “توكّل” ليُبرز اعتماد الإنسان على الله تبارك وتعالى كمصدر للقوة والإرشاد، هذا الفعل يشير إلى الاستسلام لله والثقة في قدرته على توجيه الأمور، وعبارة “إنك على الحق المبين” تُظهر جلاء الحق ووضوحه، مما يُعزز الثقة في الرسالة التي يحملها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وتشير الآية 80 إلى عدم قدرة النبي على إسماع “الموتى” و”الصم”، مما يُظهر بلاغة في التصوير، حيث تُشبه قلوبهم بالأموات بسبب جحودهم، هذا التشبيه يُبرز عمق الضلال الذي يعيش فيه المكذبون، كما يتضمن التركيب اللغوي هنا توازناً بين الأفعال، مما يعكس عجز الدعوة عن الوصول إلى من لا يريدون الاستماع.
أما في الآية 81، فتظهر دلالة كبيرة من خلال قول الله تبارك وتعالى “إن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ”، استخدام حرف “إلا” يشير إلى الاستثناء ويُبرز أن الهداية تتطلب إيماناً داخلياً، حيث يُظهر المعنى أنه لا فائدة من الدعوة لمن لا يفتح قلبه للإيمان، هذه التركيبة اللغوية تعكس المعاني الدقيقة للإرادة الفردية في قبول الحق.
وفي الآية 82، يُشير قوله “أخرجنا لهم دابة من الأرض” إلى الإعجاز الإلهي، حيث يتحدث عن حدث عظيم سيحدث يوم القيامة، هذه العبارة تُعبر عن قدرة الله عزّ وجلّ على إظهار المعجزات كوسيلة لتأكيد الحقائق في ذلك اليوم، مما يزيد من دلالة أهمية الإيمان بالآيات.
وفي الآية 83، يتحدث الله تبارك وتعالى عن “يوم نحشر من كل أمة فوجاً”، التركيب البلاغي هنا يتضمن عبارات تشعر القارئ بعظمة هذا الحدث، حيث يتم تجميع المكذبين بشكل جماعي، مما يُعزز الإحساس بالمصير المشترك الذي ينتظرهم، كما أن استخدام كلمة “يوزعون” يوحي بمدى تنظيم ذلك اليوم، حيث سيتم توزيعهم وفقاً لأفعالهم.
بالإضافة إلى ذلك، تتجلى الدلالات البلاغية في استخدام الأسلوب القصصي والتشبيهات، مما يزيد من تأثير الآيات في نفوس المستمعين، كما تعكس الآيات قدرة اللغة العربية على التعبير عن معاني عميقة ومتعددة الأبعاد، مما يُظهر بلاغة القرآن الكريم وإعجازه، إن هذه الآيات تُبرز قدرة الله تبارك وتعالى المطلقة وعلمه الواسع، وتُعبر عن أهمية الإيمان، بينما تُظهر أيضاً عجز من ينكرون الحق في الاستماع إليه أو الرد عليه.
وتُعد سورة النمل من السور العظيمة في القرآن الكريم، حيث تحمل في ثناياها مجموعة من الأفكار العميقة والدلالات الواضحة التي تعكس عظمة الرسالة الإلهية، حيث تنطلق السورة من تأكيد التوحيد وأهمية الإيمان بالله عزّ وجلّ، حيث تتحدث عن آيات الله في الكون وتستعرض معجزات عظمة الخالق، مما يُعزز إيمان القارئ ويشده للتفكر في كل ما حوله.
وتتضمن السورة قصصاً تُبرز قدرة الله وحكمته، مثل قصة النبي سليمان وملكة سبأ، مما يعكس توجيه الله للمؤمنين نحو التأمل في سنن الله في الكون، ودعوتهم للاعتبار من الأحداث التاريخية، في هذه القصص، نجد ملامح الحكمة والفطنة في التعاطي مع الأحداث، مما يُشجع المسلمين على استلهام الدروس والعبر من تجارب السابقين.
وتتميز سورة النمل بالدقة اللغوية والبلاغة العالية، حيث تُستخدم الألفاظ بعناية شديدة لتوصل معاني عميقة بأسلوب سلس ومؤثر، وإن كل لفظ يُستخدم في السورة يحمل دلالة خاصة ويُعبر عن صورة دقيقة للمعاني المقصودة، مما يجعلها نموذجاً يُحتذى به في فنون البلاغة العربية.
بالإضافة إلى ذلك، يتجلى الإعجاز في السورة من خلال تأكيدها على وحدة الرسالة السماوية وتناسقها عبر الزمن، مما يُظهر كيف أن كل نبي جاء برسالة واحدة، رغم اختلاف الظروف والأزمان، هذا التأكيد على وحدة الرسالة يُعزز من فكرة الربط بين الأنبياء ويوجه رسالة قوية للمؤمنين بأن الإسلام هو تجسيد لتلك الرسالات المتعاقبة.
ولا تقتصر سورة النمل على تقديم المعلومات أو القصص، بل تُحفز القلوب نحو الإيمان والتفكر، فهي تدعو الناس إلى الاستماع إلى آيات الله وتدبرها، مما يُشجع على تطوير علاقة روحية عميقة مع الخالق، وتُظهر السورة كيف أن الإيمان بالله تبارك وتعالى والعمل على اتباع تعاليمه يؤديان إلى تحقيق السعادة والنجاح في الحياة.
بالتالي، إن عظمة القرآن الكريم تظهر جلياً في سورة النمل، حيث يُقدم من خلال أسلوبه الفريد ومعانيه العميقة منهجاً شاملًا للحياة، كما يُبرز القرآن الحاجة إلى الإيمان والتفكر، ويُعزز الثقة في حكم الله ورحمته، مما يمنح المؤمنين القوة في مواجهة التحديات، وفي النهاية، تظل سورة النمل شهادة حية على عظمة القرآن الكريم وإعجازه، فهي لا تُعد مجرد نص ديني، بل هي دعوة للحياة الكريمة والتأمل في عظمة الخالق، مما يجعل كل من يتأمل في آياتها يشعر بعظمة الرسالة وضرورة الالتزام بها.
عبد العزيز بدر عبد الله القطان / كاتب ومفكر – الكويت.