لعلّ ما صدر عن معهد أبحاث السياسة الخارجية، وهو مؤسسة بحثية أميركية مؤثرة وتلعب دوراً بارزاً في رسم الإستراتيجيات الأمريكية على الصعيد العالمي، لعلّه يعكس حجم الريبة والخطر الذي بدأ الغرب الجماعي عموماً والولايات المتحدة على وجه الخصوص بتحسسه تجاه منظمة “بريكس” وما تشكّله من خطر حقيقي وواقعي على الهيمنة الأمريكية على العالم: “إذا لم تتحرك الولايات المتحدة، فمن المرجح أن تزداد قوة مجموعة “البريكس”، وأن تنسق سياساتها الخارجية ضد المصالح الأميركية، وأن تصبح لديها القدرة على تعطيل النظام العالمي الذي تجنّب حتى الآن الصراعات الكبرى”.
شكّلت قمة “بريكس” السادسة عشر التي عقدت في مدينة “قازان” عاصمة إقليم “تترستان” في روسيا نقلة نوعية على صعيد عمل المجموعة ودورها على الصعيد العالمي جيوسياسياً واقتصادياً ومالياً وحتى رقمياً، ويرجع ذلك لعوامل عديدة أبرزها أنها المرة الأولى التي تعقد فيها المجموعة قمتها بمشاركة أعضائها الجدد بعد اتخاذ قرار توسعتها في القمة السابقة التي عقدت العام الماضي في جنوب إفريقيا، فإلى جانب زعماء الدول المؤسسة للمجموعة وهي (روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا) شاركت الدول الجديدة على مستوى الرؤساء وهي ( إيران ومصر وإثيوبيا و الإمارات) فيما اكتفت السعودية بإرسال وزير خارجيتها لتمثيلها في القمة في مؤشر يعكس ضبابية الموقف السعودي لجهة قبول الدعوة التي وجهت لها للانضمام إلى المجموعة، وبالمجمل فقد شاركت 36 دولة في القمة منها 24 دولة كانت مشاركاتها على مستوى قادة الدول بالإضافة إلى حضور الأمين العام للأمم المتحدة وست منظمات دولية، كما وأعلنت 30 دولة عن رغبتها بالانضمام للمجموعة.
موازين قوى جديدة:
تمثل دول “بريكس” بصيغتها الجديدة أكثر من 46% من سكان العالم، وبالمقارنة تمثل مجموعة السبع (الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان) أقل من 10% من سكان العالم . في عام 1992 شكل الناتج المحلي الإجمالي المشترك لدول مجموعة السبع أكثر من 45% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي مقابل 16% لدول مجموعة “بريكس”، وفي العام 2023 تجاوزت حصة مجموعة “البريكس” 35%، بينما انخفضت حصة مجموعة السبع إلى 29%. وستستمر الفجوة في الاتساع. وبحلول نهاية عام 2024 من المتوقع أن تنمو مجموعة “البريكس” بنسبة 4% في المتوسط، وهو أعلى من نسبة 1.7% لـ”مجموعة السبع”، وتشكل مجموعة “البريكس” نحو ربع صادرات السلع العالمية وبعضها يهيمن على أسواق رئيسية مثل موارد الطاقة والمعادن والغذاء.
وعلى الصعيد العسكري شاهدنا تراجع نفوذ الغرب الجماعي، ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال فشل كل التدخلات العسكرية للولايات المتحدة وحلفائها في “الناتو” وخارجه، فقد اضطرت إلى الانسحاب من العراق وأفغانستان، ولم تتمكن من إخضاع سورية أو اليمن، وانتهت ليبيا إلى الفوضى الكاملة والفشل، وسبق ذلك كله الانسحاب من الصومال، وفي أوكرانيا خسروا رهانهم في إخضاع موسكو وإجبارها على الركوع من خلال تقديم الدعم العسكري الضخم لكييف، وفرض عقوبات اقتصادية صارمة عليها، وآخر مظاهر الفشل تمثلت في عجزهم أمام إيران وجبهة المقاومة طوال ما يزيد عن عام من الصراع العسكري المباشر في فلسطين ولبنان وعموم الشرق الأوسط الذي يشهد تراجعاً كبيراً ومتسارعاً لنفوذهم، وذلك كلّه دفع بمدير وكالة المخابرات المركزية ويليام بيرنز للقول:”لم تعد الولايات المتحدة تمتلك التفوق بلا منازع”.
وعلى الصعيد الجيوسياسي فقد تمكنت دول “بريكس” من التشبيك في ما بينها ومد الجسور مع دول الجنوب العالمي ودول الشرق على غرار ممر بحر الشمال، وممر شمال-جنوب، وطريق الحرير الصيني، ومشروع الحزام والطريق، وممر الصين روسيا عبر منغوليا، وغيرها من مشاريع الربط البري والبحري وخطوط نقل الطاقة التي جعلتها تطوع الجغرافيا بعيداً عن هيمنة الولايات المتحدة التي جرى استبعادها من كل تلك المشاريع، ولم تعد تجدي سياساتها في الحصار والعقوبات.
وبمقابل ذلك فقد كان الفشل من نصيب المشاريع الغربية وعلى رأسها مشروع “الممر الهندي الإسرائيلي الأوروبي” الذي أصيب بنكسة قاتلة بعيد الإعلان عنه بفعل “طوفان الأقصى” المستمر منذ 7 أكتوبر 2023، وهو ما حرم واشنطن من محاولاتها لإعادة الهيمنة على التجارة العالمية بما فيها خطوط الطاقة بعد أن كانت تخطط لتحويل “اسرائيل إلى بوابة عالمية لها، ولم تقتصر نتائج الطوفان الجيوسياسية على تعطيل “الممر الهندي” بل إنها زادت على ذلك بخسارة واشنطن هيمنتها على الممر التقليدي – البحر الأحمر- بعد تحول اليمن إلى اللاعب الرئيسي في تلك المنطقة كواحدة من أهم نتائج معركة “طوفان الأقصى”.
عالم جديد متعدد الأقطاب :
لقد تغير الكثير خلال عام مضى بين قمة “بريكس” في جوهانسبورغ والقمة الأخيرة في قازان، ولا شك بأن هذا التغيير المتسارع يعود بالدرجة الاولى إلى النتائج المبهرة والمعادلات “الجيوسياسية” الجديدة التي وقعت في الجغرافيا الأكثر أهمية على الصعيد العالمي ـ ونقصد بها الشرق الأوسط ـ وكل ذلك بفعل التداعيات الخطيرة والعظيمة الناتجة عن معركة طوفان الأقصى التي أنجزها وما زال محور المقاومة بقيادة العضو الشرق أوسطي الجديد في “بريكس” ونعني به إيران التي باتت تمثل القوة الصاعدة الأكبر في الإقليم ، وبما تمثله جغرافيتها من حلقة وصل بين دول الشرق والجنوب العالمي لتتحول إلى مركز “جيوسياسي” لـ”بريكس” وشركائها العالميين.
ولعلّ ما قاله الرئيس الصيني “شي جين بينج” في أثناء زيارته للرئيس “فلاديمير بوتين” في آذار/مارس الفائت كان الأكثر تعبيراً عن مجمل النتائج، حيث قال:”إننا نشهد الآن تغيرات لم نشهدها منذ مئة عام، وعلينا أن نقود هذه التغيرات معًا”.
وتحت هذا العنوان وفي ذات السياق أقيمت قمة “بريكس+” في مدينة “قازان”، واتخذت قراراتها على الصعد المالية والاقتصادية وفي المجال الرقمي، وبغطاء “جيوسياسي” واضح في إطار التحول نحو “إنشاء نظام عالمي ديمقراطي متعدد الأقطاب قائم على قواعد قانونية وملزمة”، بحسب تعبير الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” بعيداً عن سياسات الازدواجية والكيل بمكيالين التي يمارسها الغرب الجماعي الذي فضحته مؤخراً ازدواجية المعايير في تعاطيه مع كل من الملفين الأوكراني والفلسطيني، وتأييده لحرب الإبادة الجماعية التي يقودها الكيان الصهيوني في فلسطين ولبنان.
حيان نيوف