«… فإنَّنا عازمون على حوكمة الأداء والنَّزاهة والمساءلة والمحاسبة؛ لضمان المواءمة الكاملة والانسجام التَّام مع متطلبات رؤيتنا وأهدافها…» يُشكِّل خِطاب جلالة عاهل البلاد المُفدَّى في فبراير(2020م) منطلقًا جوهريًّا وتحدِّيًا حقيقيًّا نَحْوَ تعزيز ثقة المواطنين بمؤسَّسات الدَّولة في ظلِّ انحدار اقتصادي كبير شهده العالَم إبَّان أزمة كورونا، علاوةً على تراكُم التَّرهُّلات في مفاصل الدَّولة وثقله الكبير على صُدور النَّاس في ظلِّ شظفِ العيش وشحِّ الفرص الوظيفيَّة، وتعاظُم مسارات التَّصحيح الهيكلي الَّذي شهدَتْه البلاد ـ ولا تزال ـ في الجانب الاقتصادي على وَجْه الخصوص والمجالات الأخرى بوَجْهٍ عامٍّ، وتأثيراتها المباشرة والمؤلِمة على لقمة العيش لدَى شريحةٍ كبيرة من المواطنين وبالأخصِّ الطَّبقة الوسطى ودُونَ ذلك.
إلَّا أنَّ المراقب لبوصلةِ الإصلاحات الشَّاملة الَّتي تشهدها عُمان يراها تتَّجه نَحْوَ تحقيق التَّنمية الآمنة غير المندفعة، ويستشرف من خلال تفاصيلها عزيمة وإصرار إعادة هندسة فلسفة الدَّولة نَحْوَ تحقيق الحياة الكريمة عَبْرَ بوَّابة الإنجاز التَّشريعي الكبير والَّذي تُوِّج بقانون الحماية الاجتماعيَّة الصَّادر بالمرسوم السُّلطاني رقم (52/2023م) وما احتواه من ضمانات تقِي الأُسرة العُمانيَّة من متغيِّرات المرحلة والحدّ من ذوبان الطَّبقة الوسطى إلى مستنقعات الفقر والعدم والَّتي تُفرِّخُ بعد حين نماذج غير مرغوبة تشحذُ الفكر نَحْوَ السُّخط وانعدام الأمن الاجتماعي، وانعكاس ذلك على شكل ممارسات غير سويَّة.
لو أمعَنَ المُراقِب للمشهد العُماني وضيَّق عدسَتَه على جسارة التَّحدِّي الَّذي تنتهجُه الفلسفة السِّياسيَّة الإصلاحيَّة عَبْرَ شُرفة «ملخَّص المُجتمع» وتتبَّع لُغة التَّخاطب للجمهور يجد أنَّ جسر الثِّقة يزداد متانةً وهو ما يُشعرك بأنَّ الحكومة مُمثلةً في يَدِها الغليظة عَبْرَ «جهاز الرَّقابة الماليَّة والإداريَّة للدَّولة» كانتْ تشعر أنَّ التَّقارير السنويَّة السَّابقة لم تكُنْ محبَّذة لدَى المُجتمع بحُكم التَّحفُّظات الكثيرة قَبل نشرِه، بَيْنَما الآن تغيَّرت لُغة التَّقديم، وجرأة الإحصائيَّات والبيانات، ومُسمَّيات المُخالفين؛ فمُلخص المُجتمع في عددِه الأخير تجاوز خطوطًا حمراء لم نكُنْ نتوقَّعها، وانتقل إلى مُربَّعات أكثر مصداقيَّة وجُرأة وشفافيَّة لم نعتقدْ يومًا أن يُقدَّمَ بهذه اللُّغة البسيطة للنَّاس، واستظهرَ ما كُنَّا نتوقَّعه تجاوزًا لرغبةِ المُجتمع في كشفِ المُخالفين بصوتِ العدالة والمساءلة، وخلقَ أرضيَّة خصبة لتحدِّي الدَّولة نَحْوَ تمكين أولويَّة الرَّقابة كأحَد المحاور الرئيسة في «رؤية عُمان 2040م» تحت وسْمِ «حوكمة الجهاز الإداري للدَّولة والموارد والمشاريع».
نحن بحاجةٍ لجرعاتٍ أكبر وتمكين جسر الثِّقة بَيْنَ المواطنين والدَّولة فيما يخصُّ الكثير من متطلَّبات الحياة والرفاهيَّة عَبْرَ مكافحة مكامن الفساد والنُّفوذ وتحكيم لُغة العدل والمساواة وإجزال الفرص والحقوق في ظلِّ حكومة قَبلتِ التَّحدِّي ومعالجة التَّرهُّلات. فمَن يتعمَّق في «ملخَّص المُجتمع» يجد أنَّ نسبة معالجة ملاحظات الجهاز للجهات المشمولة في (2022م) بلغتْ (1509) ملاحظة، تمَّ تنفيذ (46%) بَيْنَما لم ينفَّذْ مِنْها (54%)، بَيْنَما الرَّقم في العام (2023م) يُشير إلى (1518) ملاحظة، تمَّ معالجة (31%) بَيْنَما لا يزال قَيْدَ التَّنفيذ (69%)، وحَوْلَ الهيئات الاستثماريَّة والشَّركات فقد بلغتِ الملاحظات الجهاز في (2022م) (1134) تمَّ معالجة (40%) بَيْنَما لم تعالجْ (60%)، وفي العام (2023م) بلغ عدد الملاحظات (1165) تمَّ معالجة (19%) فقط ولا يزال (81%) قَيْدَ المعالجة.
من المُهمِّ جدًّا أن يتكاتفَ المُجتمع مع الجهات الرقابيَّة لتمتدَّ يَدُ العدالة والمساءلة لكُلِّ مَن يعتقدُ أنَّ موقعَه الوظيفي النَّافذ يجعل من مؤسَّسات الدَّولة وهيئاتها وقِطاعاتها الاستثماريَّة هبةً من الله يتصرَّف بها دُونَ وَجْه حقٍّ. فالمسؤوليَّة مشتركة والعدالة والشفافيَّة مُناطة بالجميع، فملخَّص المُجتمع وما وصلَ إِلَيْه في هذه المرحلة هو صوتُ البناء والتَّنمية فلا ينبغي أن يكُونَ في مراحله القادمة أقلَّ ممَّا عَلَيْه الآن، فشكرًا لجهاز الرَّقابة بكُلِّ أطيافه ومُكوِّناته وكوادره على ما يقوم به، ونشدُّ بأيادينا لكُلِّ مواطن غيور على بلده ومقدَّراته بالتَّعاون مع الجهات الرقابيَّة بما يخدم الصَّالح العامَّ.
د. سلطان بن خميس الخروصي / باحث وكاتب في شؤون المجتمع والمواطنة