جميع الكُليَّات والجامعات الَّتي تدرسُ العلوم السياسيَّة والعلاقات الدّوليَّة تحتوي في أحَد محاورها على فنِّ التَّفاوض وسِمات المفاوض وأجندة المفاوضات، حيث تؤكِّد المدارس والمعاهد الدّبلوماسيَّة المُتخصِّصة بدراسةِ المهارات الدبلوماسيَّة بجميع مدارسها، وخصوصًا الغربيَّة مِنْها، على مهارة المفاوض وسِيرته المهنيَّة المُحنَّكة في هذا المجال، بالإضافة إلى جدولة التَّكتيك والاستراتيجيَّة في تحقيق الأهداف المرجوَّة ضِمن الطَّريق المرسوم له. إنَّ نجاحَ المفاوض يأتي من خلال تسلُّحه بأفضلِ المهارات الفكريَّة والثَّقافيَّة، وبُعد النَّظر على الطَّرف الآخر بعيدًا عن الظَّفر بالإيجابيَّات من خلال التَّنازل عن كثيرٍ من النّقاط الَّتي يَعدُّها ليسَتْ بذات أهميَّة.
أجندة المفاوضات السياسيَّة تختلف كثيرًا عن التجاريَّة أو الأكاديميَّة أو الصحيَّة وحتَّى العسكريَّة؛ لأنَّها الثَّانية أهدافها تكتيكيَّة ذات رؤية ووقتٍ مُحدَّد كالتَّعاون بَيْنَ الجامعات أو شراء مواد غذائيَّة أو حتَّى شراء مُعدَّات عسكريَّة أو مَدَنيَّة وتنتهي بمجرَّد إيفاء الطَّرف الثَّاني، بَيْنَما السياسيَّة تُقرِّر مصيرَ شُعوب وتراب وسيادة بُلدان.
جميع المدارس المُتخصِّصة في فنِّ المفاوضات السياسيَّة تؤكِّد على معرفة تاريخ الطَّرف الثَّاني المفاوض، ودراسة المستجدات الَّتي طرأتْ عَلَيْه مع أخْذِ بنظرِ الاعتبار تاريخه بفنِّ المفاوضات من حيثُ الخسارةُ والرِّبح، ومن حيثُ المصداقيَّةُ والكذب والمُراوغة.
إنَّ سِمات وأجندة المفاوضات السياسيَّة تعتمدُ كثيرًا على تاريخ مفاوضات الطَّرف المفاوض، سواء(كأُمَّة، شَعب، عِرق، دِين، قبائل) لأنَّ هذه جينات وراثيَّة تنتقل عَبْرَ الأجيال وإن اختلفتْ قوَّتها بسببِ الأحداث ومُقوِّمات القيادة وغيرها من الصِّفات العامَّة. وهي صفات طبيَّة جينيَّة (الجينات الوراثيَّة). مِثالنا اليوم المفاوِض الصهيوني في «طوفان الأقصى» وهي وتجري لأكثرَ من عامٍ بَيْنَ المفاوِض العربي (قطر وحماس ومصر) بخصوصِ وقْفِ إطلاق النَّار على أهلِنا في غزَّة، والطَّرف الآخر هو الجانب «الإسرائيلي» الصهيوني المفاوِض المُراوِغ والَّذي يلعبُ على أوتار الطَّرف العربي.. وطبعًا هناك فَرقٌ كبير بَيْنَ (إسرائيل، اليهود، الصهيونيَّة) فالأخيرة هي حركة منظَّمة أسَّسها (ثيودور هرتزل عام 1897) هدفُها تأسيس وطن قومي لَهُم وإشاعة الفِتن والمؤامرات لغرضِ بقائهم. إنَّ الحركةَ الصهيونيَّة الغاشمة الَّتي تَعيثُ في الأرض فسادًا منذُ وقَبل إنشائها، فقد طُرد اليهود من مختلف بقاع العالَم حتَّى اغتصبوا أرض المقدَّسات ـ فلسطين الحبيبة، والتَّسلسل التَّاريخي لطردِ المفاوِض اليهودي يبدأ من (عام 1080 طرده من فرنسا، 1098 من جمهوريَّة التشيك، 1113 مذبحة كييف، 1171 طرده من إيطاليا، 1198 طرده من إنجلترا، 1306 الطَّرد من فرنسا، 1391 الطَّرد من إسبانيا وصولًا إلى عام 1933 الطَّرد من ألمانيا والإبادة الجماعيَّة).
أمَّا التَّاريخ الإسلامي فيخبرنا بأنَّ المفاوضَ اليهودي هو من أخبثِ المفاوِضِين؛ لأنَّه مراوِغ وغير صادِق ويُحيك المؤامرات، ويقوَى ويتطوَّر من خلال زرعِ الفِتن وحياكة المؤامرات من خلال الأيدي الخبيثة والَّتي تخونُ الأُمَّة والشَّعب والدِّين والمبادئ وهُمْ كُثر. وهُنَا نؤكِّد على الجينات الوراثيَّة من حيث الخبثُ والمُراوغةُ وعدمُ المصداقيَّة من خلال انتقالِها عَبْرَ الأجيالِ لجميع الأوقات والأماكن، وراحوا يمارسونَ هوايتَهم وطبْعَهم في المَكْر ونسجِ المؤامرات الَّتي تتكرَّر بَيْنَ الحين والحين، وتتغيَّر أشكالُها بتغيُّر الزَّمان والمكان، لكنَّها لا تتوقَّف ولن تتوقَّفَ. فقَدْ أوضحَ الله تعالى للمُسلِمِين أنَّ عداوة اليهود لَهُم أبديَّة لا تقبلُ التَّغيير، ولا تتحوَّل إلى المُسالَمة والمَحبَّة. تكرَّر في القرآن ورُود قتلِ بني إسرائيل أنبياءهم بغير حقٍّ، مِثل قولِ الله تعالى: «أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ» البقرة:87. لا عجبَ فيها، فحالُهم مع أنبيائهم، فريقًا كذَّبوا وفريقًا يَقتُلون، ثمَّ لا غرابةَ أن يشنُّوا حرب الإبادة ضدَّ شَعبِنا الأبيِّ الفلسطيني، وقتل الأبرياء من الأطفال والنِّساء، وتجاوز حقدهم إلى أماكن الإيواء والجوامع وقوافل الإعاشة، وقطع الكهرباء على المستشفيات واحتجاز الأطبَّاء دُونَ حقٍّ. هذه هي أفعالُ اليهود وخلْفَهم أميركا راعية الديمقراطيَّة الإرهابيَّة الَّتي تمدُّهم بجسرٍ جوِّي لمختلف الأسلحة الفتَّاكة المُحرَّمة دوليًّا.
وإذا رجَعنا إلى فنِّ التَّفاوض فإنَّ عناصر وتقنيَّات وآليَّة التَّفاوض تُعَدُّ الآن من أهمِّ مُقوِّمات الحياة الهادئة والنَّاجحة والمتميِّزة في تحقيق الأهداف، سواء على المستوى البعيد أو القريب.. وطبعًا هذا يعتمد على أن يتمتَّعَ المفاوِض بالإبداع والابتكار والمصداقيَّة، وهدوء الأعصاب والتَّأنِّي في اتِّخاذ القرار وبُعد النَّظر في التَّحليل المسألة في حلبة المفاوضات مهما كان نَوْعها، وهذا لا يملكُه المفاوِض اليهودي «الإسرائيلي» الصهيوني.
في الختام، إنَّ التَّفاوضَ من مرتكزات الحياة البَشَريَّة الحضريَّة وينقلُ البَشَريَّة من حالٍ إلى أحسنِ الأحوال، ولكنَّ عناصرَ التَّفاوض وسِماته العلميَّة الأكاديميَّة الشَّريفة لا تنطبقُ على المفاوِض وهو يحملُ جيناتٍ وراثيَّة خبيثة تحمل في طيَّاتها الاستكبار والاستعلاء وحياكة المؤامرات والخبث المنشود.
د. سعدون بن حسين الحمداني
دبلوماسي سابق والرئيس التنفيذي للأكاديمية الدولية للدبلوماسية والإتيكيت