في السياسة ، كما في الحياة بشكل عام ، تتغلب الفاعلية في النهاية علي المظهرية ، وهو ما يعبر عنه مثل شهير يقول :«ليس مهما أن يكون القط أسود أو أبيض .. المهم أن يكون قادرا علي اصطياد الفئران».
هذه العبارة البسيطة العميقة في نفس الوقت ، تفسر إلي حد كبير سلوك الناخب الأمريكي الذي يوازن ما بين قدرات المرشحين علي ضوء معيار واحد وهو» من فيهم يمكنه معالجة همومي واحتياجاتي» .
لقد كنت بحكم الهم الوطني أو بحكم الوظيفة فيما بعد ، أتابع عن كثب مواسم الانتخابات الأمريكية ، وكم كتبت عنها معلقا ومتندرا ، وكم تمنيت أن نشهد مواسم مشابهة ، فهي بلاشك إحدي الوسائل الهامة لنشر الثقافة السياسية ، وإشراك المواطن في اتخاذ أهم القرارات التي تؤثر في مصيره ، رغم أنها من ناحية أخري تشبه ساحة سيرك تنعقد كل أربعة أعوام ، وتلعب فيها الدعاية والأموال دورا لا يستهان به ، يتحول فيه المرشح الرئاسي إلي سلعة لا تختلف عن «البيبسي كولا»، يجتهد المحترفون في أبداع الدعاية عنها ، بحيث ينجح تسويقها ، بغض النظر عن قيمتها ، التي قد تنتهي إلي مجرد «فنكوش»، مع الإعتذار لفيلم مصري تناول هذا الموضوع .
وكنت أهتم جدا بالمناظرات بين المرشحين ، محاولا أن استشف جوهر مواقف كل مرشح من بين الكثير المصطنع والذي تدسه أصابع المحترفين حتي في مكياج المرشح والزاوية التي يقف بها ، وغير ذلك من القشور الكثيفة التي يجب البحث فيما يكمن خلفها من خطط واستراتيجيات.
ولم أكتف بمتابعة الإنتخابات التي عاصرتها في حياتي ، بل وقرأت بكثافة عن جولات الإنتخابات الأمريكية منذ الإستقلال ، وخاصة عندما كنت أكتب كتابي ( صكوك الغفران الأمريكية) ، حيث اتضحت لي بعض الحقائق ، لعل أبرزها مثل القط الذي قدمت به هذا المقال .
علي سبيل المثال ، إذا نظرنا إلي انتخاب فرانكلين روزفلت عام 1932 ، سنجد أن الناخب الأمريكي كان آنذاك غارقا في أزمة إقتصادية طاحنة ، أطلق عليها :” الركود العظيم ” The Great Depression ، مع زيادة مخيفة مستويات الفقر ونسب البطالة .
ورغم أن روزفلت تقدم من خلفية ديمقراطية ، فأنه ركز بشكل براجماتي علي الإدارة بالنتائج ، ولم يحصر نفسه في قالب أيديولوجي صارم .
بادر روزفلت ببرنامج جريئ أطلق عليه إسم «الصفقة الجديدة» The New Deal، يستند في الأساس علي مبادرات تستهدف خلق الوظائف ، ومشروعات كثيفة للبنية الأساسية ، في إطار إجراءات تستهدف تحقيق الأمن الإجتماعي .
لم تكن مشكلة الناخب الأمريكي في ذلك الوقت أن المرشح يمثل الحزب الديمقراطي أو الجمهوري ، فقد كان الأهم في الإختيار هو إمكانيات المرشح في معالجة معاناة المجتمع ومشاكله بشكل مؤثر فعلا .
ولم تكن سياسات روزفلت مجرد مثال ناجح لخروج مجتمع من أزماته ، وإنما كانت أيضا مثال في تطبيق مبدأ أسبقية حل المشاكل علي الإلتزام بالمنهج الحزبي الضيق ، وهذا ما أدركه الناخب الأمريكي ، فأحسن الإختيار .
وسوف نجد نفس المعيار يبرز مرة أخري عام 1980 ، عندما نجح رونالد ريجان الذي بدأ حياته السياسية في الحزب الديمقراطي ثم تحول إلي الحزب الجمهوري ، فقد تم انتخابه في ظل مشاكل إقتصادية معقدة ، وأزمة الرهائن في إيران ، التي عكست ضعف القيادة الأمريكية التي تمثلت في الرئيس جيمي كارتر ، حيث عكست صورة الممثل السابق ريجان صورة الكاوبوي الجريئ ، الذي يستعيد ” الروح الإمريكية ” مرة أخري .
لقد تمثلت سياسات ريجان في تطبيق مبادئ إقتصادية محافظة ، مع بروز موقف قوي ، يصل إلي حدود التهور فيما يتعلق بالأمن القومي .
ولم تكن شعبيته نتاج كونه ممثلا للحزب الجمهوري ، بقدر ما كانت انعكاس لسياسات نجحت في معالجة المشاكل الإقتصادية ، ومواجهة تحديات السياسة الخارجية .
لقد كان يشبه روزفلت في كونه مثالا لحقيقة توجه الناخب ، خاصة في أزمنة الأزمات ، إلي اختيار المرشح الذي يعكس برنامجه مواجهة التحديات الضاغطة ، وبغض النظر عن انتماؤه الحزبي .
ولقد كان الإختيار الحر للناخب الأمريكي محاطا علي الدوام بحماية قانونية يوفرها دستور ، وشعور عميق لدي المجتمع بأهمية سيادة القانون ، حتي في تصحيح الأخطاء التي تترتب علي اختيار غير موفق ، وقد كان مثال الرئيس نيكسون أوضح دليل علي ذلك .
أي أن ” الواقعية السياسية ” لم تكن مجرد رجم بالغيب أو قفز إلي مجهول غير قابل للتصحيح ، بل إن أحد طرفي الإنتخابات اليوم لم يستطع أن يدوس علي سور القانون الحامي لإختيارات المجتمع في انتخابات عام 2020 ، حين حاول تحدي نتائج الإنتخابات بما وصل بالأمور يوم 6 يناير 2021 إلي حد الحرب الأهلية ، بل ووجد الرئيس ترامب في القوات المسلحة من يرفض محاولته لتوريط الجيش في الصراع السياسي بإستغلال السلطات التي خولها الدستور له علي أساس أنه القائد الأعلي للقوات المسلحة ، حين وقف رئيس الأركان يقول في خطاب واضح وصريح :” ” أننا لم نقسم يمين الولاء لملك آو ملكة أو لمستبد أو ديكتاتور .. لا .. كما أننا لم نقسم يمين الولاء لبلد أو قبيلة أو ديانة ، وإنما كان قسمنا للولاء للدستور ، وعلي كل واحد منا أن يحمي ويدافع عن هذه الوثيقة مهما كان الثمن الشخصي الذي نتكبده ” .
ومن المتصور أن الناخب الأمريكي اليوم يقف مرة أخري في مفترق طرق ، وهو يواجه التحديات المختلفة سواء في مشاكل الإقتصاد ، أو المتغيرات التكنولوجية أو المشاكل البيئية والصحية الجديدة .
انتخابات 2024 في أمريكا اليوم ، قد تكون فرصة للمجتمع الأمريكي لتجاوز الجدران الحزبية ، بحيث يركز في اختياراته علي اختيار “القط” الذي يستطيع أن يصطاد الفئران ، في ظل أجواء مخيفة تهدد النسيج الأمريكي بملامح تشبه الحرب الأهلية ، بما يتطلب حكمة الواقعية السياسية في إطار سياج قانوني محكم .
معصوم مرزوق