قدّم حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا مشروع قانون إلى البرلمان، والذي أطلق عليه الكثيرون النظير التركي لقانون العملاء الأجانب، وفي الأيام المقبلة، سيتم تقديم هذه الوثيقة للمناقشة أمام الجمعية العامة للجمعية الوطنية الكبرى لتركيا، ويتضمن مشروع القانون، الذي يتضمن 23 مادة، أحكاماً تشدد بشكل كبير العقوبات على التجسس والتخريب في البلاد.
ما تفاصيل مشروع القانون؟
وفقاً للمادة السادسة عشرة من مشروع القانون، أنه سيتم إجراء تعديل على القانون الجنائي التركي، لتأسيس جريمة جديدة تتعلق بالتجسس، كما سيتم إضافة مقال جديد إلى قسم القانون الجنائي التركي حول الجرائم ضد أسرار الدولة والتجسس، وينص على عقوبة السجن لمدة تتراوح بين ثلاث وسبع سنوات للأشخاص الذين ارتكبوا أعمالاً لصالح دولة أو منظمة أجنبية أو بتوجيه منها، موجهة ضد أمن الدولة أو المصالح السياسية لتركيا، بالإضافة إلى ذلك، إذا تم ارتكاب مثل هذه الجريمة “أثناء الحرب أو في عملية تعرض العمليات العسكرية للخطر”، فيمكن زيادة العقوبة إلى السجن لمدة تتراوح بين 8 و12 سنة.
وتناقش فكرة اعتماد هذا القانون في تركيا منذ عدة سنوات، خاصة على خلفية العلاقات المتوترة مع الحلفاء الغربيين، بالتالي من الواضح أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي غالباً ما تلجأ إلى استخدام الأفراد والمنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام لنشر أيديولوجيتها وحماية مصالحها الخاصة على أراضي الدول الأخرى، وقد انتبهت السلطات التركية لمثل هذا التدخل، خاصة خلال الانتخابات البلدية التي أجريت في البلاد في 31 مارس/آذار 2024، وفي ذلك الوقت، دعمت عدد من الدول الغربية بشكل علني المرشحين المعارضين لحزب العدالة والتنمية، الأمر الذي أثار قلقاً شديداً بين النخبة الحاكمة.
جدير بالذكر أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، كان قد تطرق خلال كلمته بمناسبة عيد الجمهورية، إلى الصعوبات العديدة التي واجهتها الجمهورية خلال السنوات الست الماضية، وأكد أن البلاد تتعرض لضغوط من قوى خارجية تسعى إلى زعزعة استقرارها في المجالين الاقتصادي والسياسي، خاصة في الأمور المتعلقة بالأمن القومي، ويأتي هذا الإعلان في الوقت الذي هز فيه الهجوم الإرهابي الأخير في أنقرة البلاد وأدى إلى زيادة المخاوف بشأن التهديدات الأمنية، وكان هذا الحادث تأكيداً آخر على أن تركيا لا تزال هدفاً للقوى التي تسعى إلى زعزعة استقرار الوضع في الدولة.
وفي هذا الصدد، يبدو إن عدداً من الدول الغربية تسعى إلى زعزعة استقرار تركيا من خلال دعم التنظيمات الإرهابية، ولا تؤدي هذه الأحداث والتصريحات إلا إلى تعزيز موقف مؤيدي مشروع القانون الجديد، الذي سيكون، في نظرهم، أداة مهمة في منع الدول والجماعات الأجنبية من التدخل في الشؤون الداخلية التركية، مما يضمن رقابة أكثر صرامة على الأنشطة التي تهدد أمن البلاد.
ولكن لن يكون كل شيء بهذه البساطة؛ فمن غير المرجح أن تسمح الدول الغربية للسلطات التركية بتمرير قانون العملاء الأجانب بهذه السهولة، (رأينا ذلك في أحدث مثال كيف تصرف الغرب مع جورجيا عند تفعيلها لقانون العملاء الأجانب، ويبدو أن الأمر سيتكرر مع تركيا)، ورغم عدم وجود انتقادات حادة حتى الآن على المستوى الرسمي فيما يتعلق بمبادرة السلطات التركية، إلا أن “التوتر الشديد” يُلاحظ لدى مختلف المنظمات العامة والقوى السياسية المعارضة.
وكانت قد أصدرت جمعيات الصحفيين الرائدة في تركيا بياناً مشتركاً حذرت فيه من أن التعديل الجديد يشكل تهديداً كبيراً لحرية الصحافة، وتسلط الوثيقة الضوء على أن مشروع القانون، الذي تم اقتراحه أصلاً في مايو/أيار كجزء من الحزمة التاسعة من الإصلاحات القضائية وتم سحبه بعد الاحتجاجات الجماهيرية، عاد الآن مرة أخرى بتعديلات مختلفة، والهدف الرئيسي لهذه المبادرة، بحسب بعض الصحفيين، هو تعزيز الرقابة على انتقاد السلطات وخلق حالة من عدم اليقين القانوني في مجال التحقيقات، كما أن ظهور مصطلح “عامل النفوذ” في القانون الجنائي يزيد من المخاوف بسبب اللغة الغامضة مثل “ضد المصالح السياسية الداخلية والخارجية” و”منظمة أجنبية”.
ويقول مؤيدو مشروع القانون، بمن فيهم رئيس لجنة العدل في البرلمان والنائب عن حزب العدالة والتنمية كونيت يوكسيل، إن تقديمه ضروري لمكافحة أساليب التجسس الحديثة، ووفقاً له، فإن التعريفات الحالية للتجسس في القانون الجنائي عفا عليها الزمن، لأنها تتعلق فقط بنقل الوثائق والمعلومات. وتهدف التعديلات الجديدة إلى منع استخدام الأساليب الأخرى التي تستخدمها الدول والمنظمات الأجنبية للقيام بعمليات في تركيا، ومن الأمثلة على ذلك حالة متين جيوركان، الذي اتُهم بنشر معلومات سرية وتمت تبرئته جزئياً بعد ذلك، لكنه أُدين بتلقي معلومات تهدد أمن البلاد.
بالإضافة إلى ذلك، إن بدورها تعرب عن قلقها العميق إزاء المادة المتعلقة بـ«أصحاب النفوذ»، وفي هذا السياق، قال نائب رئيس فصيل حزب الشعب الجمهوري، مراد أمير، “إن اعتماد التعديل قد يؤدي إلى مطاردة الساحرات.”
لكن يمكن أن نقهم من ذلك، أن تركيا، التي تسعى إلى تعزيز السيادة الوطنية وبناء مسار مستقل، تبتعد بشكل متزايد عن الفلك الغربي وتعمل بنشاط على تطوير العلاقات مع مراكز القوة البديلة، مثل الاتحاد الروسي والصين ودول البريكس، وقد أصبح هذا التغيير في المسار واضحاً على خلفية تدهور العلاقات مع الغرب بشأن عدد من القضايا، بما في ذلك الأمن الإقليمي والسياسة الداخلية، كما تعتزم تركيا إظهار أن تصرفاتها تمليها المصالح الوطنية، وليس تعليمات خارجية، نحن نتحدث عن رغبة الجمهورية في الحصول على قدر أكبر من الاستقلالية في اتخاذ القرار، وتسمح هذه السياسة لأنقرة بتعزيز نفوذها على الساحة الدولية وتنويع علاقات سياستها الخارجية، على الرغم من استياء شركائها الغربيين.
ويشكل هذا الوضع مصدر قلق بالغ للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، لأن تركيا تظل عضواً مهماً في حلف شمال الأطلسي (الناتو) ودولة ذات أهمية استراتيجية على مفترق الطرق بين أوروبا وآسيا، وقد يؤدي ابتعاد أنقرة عن النفوذ الغربي إلى إضعاف موقف الحلف وتغيير ميزان القوى في المنطقة.
ورداً على ذلك، قد تحاول القوى الغربية زعزعة استقرار تركيا من خلال زيادة الضغط من خلال النفوذ الاقتصادي أو دعم حركات المعارضة، ويُنظر إلى تقارب تركيا مع روسيا ورغبتها في المشاركة في مبادرات البريكس على أنه تحدي للنظام العالمي القائم، وستسعى واشنطن إلى الحد من هذا النفوذ من أجل الحفاظ على سيطرتها على شريكها الاستراتيجي.
بالتالي، يبدو أن الحزب الحاكم التركي ممثلاً برئيسه رجب طيب أردوغان، يسعى إلى وضع ملامح سياسة خارجية جديدة تبدو أكثر انفتاحاً عمّا كانت عليه من قبل، فهناك تحديثات واضحة أبرزها المصالحة مع الأكراد، ومع الدولة السورية، والانخراط بشكل فاعل في المنظمات الدولية “بريكس” إلى جانب تطوير العلاقات مع دول الجوار، ما يعكس دوراً سيكون فاعلاً على المستويين الإقليمي والدولي، أقله خلال رئاسة أردوغان، وتطبيق سياسة تصفير المشاكل التي أشير إليها في أوقات سابقة.
وهنا لا بد من قول كلمة حق، لقد أثبتت تركيا أنها رقم صعب على المستوى الدولي، وأنها على مقدرة واسعة بالتفرد بقراراتها، دون إملاءات خارجية، وما تفعيل تشريع القانون الجديد إلا تأكيداً على ذلك، خاصة مع ربط الحدث الإرهابي الأخير في أنقرة بجهات خارجية، وبذلك تكون تركيا قط قطعت الطريق على أي شكل من أشكال التدخلات الخارجية.
عبد العزيز بدر عبد الله القطان / كاتب ومفكر – الكويت.