إنَّ القرآن الكريم، كتاب الله تبارك وتعالى العظيم، هو بحر من المعاني العميقة والحقائق التي تتجلى في كل آية وسورة، وعلى مر العصور ظل هذا الكتاب مصدراً لا ينضب من العلم والهداية، ويتجلى الإعجاز القرآني في أكثر من جانب، من أبرزها الإعجاز العلمي الذي سبق العصر الحديث بكثير، فكل سورة وكل آية في القرآن الكريم تحمل بين طياتها إشارات إلى حقائق علمية لم تكن معروفة للبشرية في العصور التي نزل فيها القرآن، هذا الإعجاز لا يزال يدهش العلماء والمفكرين إلى يومنا هذا، حيث يجدون في الآيات القرآنية دلالات على اكتشافات علمية فاجأت العالم المعاصر.
من أبرز الأمثلة على هذا الإعجاز، ما جاء في قوله تعالى: “وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ” (الليل: 1-4)، حيث تشير هذه الآيات إلى التوازن العجيب بين الليل والنهار، وكيف أنَّ كل منهما يتبدل في توقيت دقيق في تناغم مع حركة الأرض والسماء، وهو ما أثبته العلم الحديث من خلال دراسة حركة الأرض حول محورها ومدى تأثير هذا التغير على مكونات الحياة.
ومن الآيات التي تكشف عن دقة الإعجاز العلمي في القرآن، قوله تعالى: “أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُمْ خَصِيمٌ مُبِينٌ” (يس: 77)، حيث يشير القرآن إلى بداية الخلق من نطفة، وهي الحقيقة التي لم يعرفها البشر إلا حديثاً، من خلال دراسات البيولوجيا الجزيئية التي أثبتت أن الإنسان يبدأ من نطفة ثم يتطور إلى جنين في رحم أمه.
إنَّ هذه الأمثلة هي جزء بسيط من معجزة القرآن التي تعبر عن علم الله عزّ وجلّ اللامحدود، وعظمة كلماته التي تحمل دروساً وحقائق علمية في غاية الدقة، ولهذا، كان ولا يزال علم التفسير أحد أعظم العلوم التي يجب على العلماء أن يركزوا عليها، فالتفسير الصحيح للآيات هو المفتاح لفهم معاني القرآن العميقة، ورؤية الإعجاز العلمي الذي يحتوي عليه.
ولقد ترك علماء التفسير إرثاً واسعاً من الكتب والشروح التي تفتح الأفق لفهم أعمق لهذا الكتاب العظيم، ولحسن الحظ، فإنَّ هناك في أيامنا هذه من يهتم بهذا العلم الجليل، ويحمل الراية ويكمل المسيرة التي بدأها العلماء السابقون، فتتوالى الجهود لاكتشاف المزيد من أسرار القرآن الكريم وفهم معانيه في ضوء الاكتشافات العلمية الحديثة، هذا الاهتمام المستمر يظل دلالة على أن نور القرآن لا ينطفئ، وأن الله سبحانه وتعالى قد وعد بحفظه إلى يوم القيامة، ليظل هداية ورحمة للعالمين، وبناءً على ذلك، نستكمل تفسير الآيات المباركة من سورة النمل.
بسم الله الرحمن الرحيم
حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ(85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(86) وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ۚ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ(87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ۚ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ(88) مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ(89).
هذه الآيات الكريمة التي تبدأ بقوله تعالى: “حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ” (84)، تأتي في سياق الحديث عن حال المكذبين بآيات الله، الذين كانوا ينكرون الحقائق الواضحة التي أرسلها الله لهم في رسالاته، وهذه الآية تمثل استجابة الله لهم حين يلاقون مصيرهم في الآخرة، سؤال الله لهم في الآية يُظهر جهلهم وعدم معرفتهم بحقائق الأمور، حيث يُنبههم إلى أنهم كذبوا بآيات الله رغم أنها كانت واضحة وبينَّة، ولم يكونوا قد بذلوا جهداً حقيقياً لفهمها أو إدراك معانيها، وهذا يقودنا إلى أهمية التفسير الصحيح للآيات، حيث نجد في كتب التفسير الكبرى مثل “الطبري” و”ابن كثير” أن هذه الآية تحذر من الجهل والتكذيب بعد العلم، وتحمل دعوة للرجوع إلى الفهم العميق للآيات وتدبرها.
“وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ” (85)، تشير إلى أن العقاب سيقع على هؤلاء المكذبين، وسيكون هذا العقاب نتيجة لما ارتكبوه من ظلم وإنكار للحق، وفي هذه الآية، نلاحظ أن الجحود والعناد يؤديان إلى صمتهم في الآخرة، حيث لن يكون لديهم قدرة على الكلام في مواجهة حساب الله، التفسير هنا يبين كيف أن ظلم الإنسان لغيره أو لنفسه يؤدي إلى صمته وحرمانه من حق الدفاع عن نفسه في محكمة الله العادلة. كما يذكر “ابن عباس” في تفسيره أن الله سبحانه وتعالى يسلب منهم القدرة على النطق في يوم القيامة كعقوبة على تكذيبهم.
“أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ” (86)، هذه الآية تتحدث عن نعمة الله في خلق الليل والنهار، حيث جعل الليل مكاناً للراحة والسكينة، وجعل النهار وقتاً للرؤية والعمل، التفسير هنا يشير إلى أن هذا التوازن بين الليل والنهار ليس عبثاً، بل هو آية من آيات الله الدالة على عظمته وقدرته في تنظيم الكون، ففي “تفسير القرطبي” نجد أن هذه الآية تدعو المؤمنين إلى التأمل في هذا التوازن بين الليل والنهار وكيف أنه يعكس حكمة الله في خلقه، مما يدفعهم للتمسك بالإيمان واتباع ما جاء في كتاب الله.
“وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ۚ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ” (87)، تتحدث هذه الآية عن يوم القيامة، يوم النفخ في الصور الذي يشمل الفزع لجميع من في السماوات والأرض إلا من شاء الله، في هذا اليوم، يُنكر كل شيء، وتكشَف الحقيقة كاملة أمام الجميع، ويُجبر الجميع على الوقوف أمام الله، في “تفسير ابن كثير”، يُفصل في هذه الآية كيف أن الفزع سيكون شديداً على الجميع، إلا من خصهم الله برحمة، وقد ذكر علماء التفسير أن معنى “دَاخِرِينَ” هنا يعني أنهم سيأتون صاغرين، خاضعين أمام حكم الله، وهو مشهد يذكرنا بحقيقة أن كل شيء في الكون خاضع لمشيئة الله.
“وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ۚ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ” (88)، هذه الآية تعرض مشهدًا رائعًا من مشاهد يوم القيامة حيث الجبال التي بدت لنا جامدة، تتحرك وتتمرَّ مر السحاب، وهذا من إعجاز الله في خلقه، ففي “تفسير الطبري”، نجد أن هذه الآية تشير إلى تغيرات كونية ضخمة تحدث في يوم القيامة، حين تتحرك الجبال ويزول شكلها الثابت، مما يعكس قدرة الله في تغيير الحقائق المألوفة أمام الناس في ذلك اليوم، كما أن هذه الآية تدعو المؤمنين للتفكر في مدى إتقان الله لكل شيء في الكون، وأنه خبير بما يفعلون.
“مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ” (89)، الآية الأخيرة من هذه الآيات المباركة، تعد من الآيات البشارة للمؤمنين الذين يعملون الصالحات، حيث أن الله يعوضهم خيراً على كل عمل صالح قدموه، فجزاؤهم في الآخرة سيكون أكبر من العمل ذاته، كما أنهم سيكونون في مأمن من الفزع الذي يصيب الآخرين في يوم القيامة، في “تفسير ابن جرير”، يذكر أن هذه الآية تأكيد على جزاء العمل الصالح في الدنيا والآخرة، حيث يلقى المؤمنون أمناً وسلاماً في ذلك اليوم العصيب.
بالتالي، إن تفسير هذه الآيات الكريمة يعكس عمق معاني القرآن الكريم الذي لا ينتهي، ويشمل كل جوانب الحياة البشرية، إنها دعوة للتدبر والتفكر في حقيقة ما أعدَّه الله للعباد يوم القيامة من جزاء وعقاب، والاهتمام بهذا التفسير هو ما يضمن للمؤمنين فهم الحقائق العميقة التي أراد الله أن يدركها عباده.
كما أن هذه الآيات الكريمة التي تنتمي إلى سورة النمل، حافلة بالدلالات الإعجازية والبلاغية واللغوية، التي تظهر عظمة القرآن وبلاغته، فكل آية من هذه الآيات تبرز جانباً من إعجاز الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم، سواء في الصياغة أو المعنى، مما يُثبت على مر العصور أن هذا الكتاب هو كلام الله عز وجل الذي لا يُضاهيه شيء في بلاغته وعظمته.
الآية الأولى (84):”حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ”: في هذه الآية، يظهر الإعجاز البلاغي في السؤال الذي وجهه الله سبحانه وتعالى إلى المكذبين بآياته، فقد جاء التعبير بأسلوب استفهامي يحمل في طياته التقريع والتوبيخ، حيث يُظهر أنَّ تكذيبهم لم يكن نتيجة جهل بسيط، بل كان بسبب إعراضهم وعدم قدرتهم على فهم الحقائق التي أرسلت لهم، قوله “أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ” يُظهر البلاغة في اختيار الزمن المستمر الذي يدل على أنَّ أعمالهم لم تكن مبنية على معرفة أو إيمان، بل على تكبر وجحود. وهذا يعكس التحدي الإلهي في الأسلوب، حيث يُنبههم إلى أنهم لم يحيطوا بعلم الآيات التي ظنوا أنهم قادرون على إنكارها.
في الآية الثانية (85): “وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ”: في هذه الآية نجد إعجازاً في التركيب البلاغي، حيث أن “وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم” يُظهر أن القول -أي العذاب- وقع عليهم كجزء من حكم الله، إذ كانت نتيجة ظلمهم هي العقوبة الصامتة في الآخرة، وهي سلبهم القدرة على النطق، هذه الصورة البلاغية تُعطي القارئ انطباعًا بأنهم أصبحوا في حالة من العجز التام أمام عدالة الله، مما يعزز إحساسهم بالهوان.
أما في الآية الثالثة (86): “أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ”: هذه الآية تبرز إعجازاً علمياً عميقاً، إذ تشير إلى النظام الكوني الذي أنشأه الله عز وجل، حيث جعل الليل مواتاً للراحة والسكينة، وجعل النهار وقتاً للنشاط والرؤية، هذا التوازن بين الليل والنهار يمثل دلالة على عظمة الله تبارك وتعالى في تنظيم الكون، والبلاغة تظهر هنا في استخدام “مُبْصِراً”، وهو وصف للنهار في دقة تجعل الإنسان يُدرك الحقيقة بكل وضوح، كما أن اختيار “لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ” هو دعوة واضحة للمؤمنين بالتدبر في هذه الآية كدليل على قدرة الله وعظمته.
وفي الآية الرابعة (87):”وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ۚ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ”: في هذه الآية، يتم التعبير عن يوم القيامة بأسلوب مهيب يوحي بالفزع العام الذي سيصيب كل الكائنات، وفيها دلالة على عظمة المشهد الكوني الذي سيتسبب في فزع الجميع، البلاغة تكمن في استخدام “دَاخِرِينَ” التي تعني الذل والهوان، حيث سيكون كل من في السماوات والأرض في موقف مُذل أمام الله، هذا التعبير البلاغي يعكس عظمة الموقف الذي سيخضع له الجميع في ذلك اليوم، ويُبرز عجز الإنسان عن التملص من مصيره.
والآية الخامسة (88):”وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ۚ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ”: هذه الآية تعبر عن إحدى أعظم مشاهد يوم القيامة، حيث أن الجبال التي تبدو ثابتة في الأرض ستصبح في ذلك اليوم كالسحاب، البلاغة تظهر في “تَحْسَبُهَا جَامِدَةً”، حيث يتم تصوير الجبال كأنها جامدة وثابتة، ولكنها ستمور وتتحرك. هذا يوضح مدى تأثير يوم القيامة على كل شيء في الكون، حتى ما اعتدنا عليه من ثوابت. الإعجاز البلاغي يظهر في استخدام “صُنْعَ اللَّهِ”، مما يشير إلى إتقان الله في خلقه، وأن كل شيء في هذا الكون هو بعناية إلهية دقيقة، تامة ومتكاملة.
الآية السادسة (89):”مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ”: هذه الآية توضح جزاء الأعمال الصالحة، حيث أن الله وعد المؤمنين بأنهم سيجدون خيرًا أعظم من أعمالهم، والبلاغة تظهر في الإشارة إلى أن الأجر ليس فقط معادلاً للعمل، بل هو أفضل منه بكثير، مما يعكس رحمة الله وكرمه، كما أن الحديث عن الأمان في يوم القيامة، في “آمِنُونَ”، يسلط الضوء على مدى راحة المؤمنين عندما يجدون جزاء أعمالهم الصالحة في ذلك اليوم العصيب.
الإعجاز اللغوي:
من الناحية اللغوية، تتميز هذه الآيات بالدقة في اختيار الألفاظ، فكل كلمة تحمل معاني دقيقة لا تقتصر على الظاهر، بل تحتوي على طبقات من المعاني التي تفتح للمتدبر آفاقاً من الفهم، كاستخدام “الصور” في القرآن الكريم والذي يشير إلى العظمة والإبداع، حيث أن النفخ في الصور يعبر عن استعادة الحياة، بينما الجبال التي تُرى “جامدة” في عالمنا ستتحول إلى شيء آخر في العالم الآخر.
وفي الختام، هذه الآيات تبرز البلاغة القرآنية الفائقة والقدرة البليغة في صياغة المعاني العميقة بأسلوب سهل مؤثر، مما يثبت أن القرآن الكريم هو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
والآيات الكريمة التي تزين سورة النمل، تتجلى فيها جمالية القرآن الكريم بكل أبعادها، حيث تفيض بكل ما يثري القلب ويجعل الروح تتعلق بالله سبحانه تبارك وتعالى. إذا نظرنا إليها بنظرة وجدانية، نجد فيها عمقاً لا يضاهيه شيء، فكل كلمة وكل حرف في هذه الآيات ينبض بالحكمة ويشع بالإعجاز الذي لا ينتهي.
ففي الآية “حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ”، يظهر ذلك المعنى الرفيع للعلاقة بين الإنسان والحق، وتجد النفس في ذلك التوبيخ الإلهي شيئاً من الندم على التقصير في فهم آيات الله وتدبرها، وإن هذا السؤال العميق “أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ” يختصر الآلام والأفكار التي تطوف في قلب الإنسان الذي أدرك حقيقة ما ارتكبه من إعراض عن الحق، ويشعر وكأن هذه الكلمات لم تطرح على الأفراد في ذلك الزمن فحسب، بل تُوجه أيضاً إلى كل من يعرض عن الحق اليوم، وكأن هذه الآية تخاطب كل قلب مغلق عن فهم كلام الله تبارك وتعالى، داعية إياه للعودة والتفكر.
أما في الآية “وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ”، فيستحضر القلب صورة تلك اللحظة التي يشعر فيها المجرمون بالعجز التام، لا يستطيعون الرد ولا حتى التبرير، آية تحمل في طياتها شعوراً عميقاً بالهوان والذل في لحظة الحساب، وهذه اللحظة التي تنتزع من فم الإنسان أي قدرة على النطق، تُحفزنا على السعي للتوبة والعودة إلى الله قبل أن يقع علينا نفس ذلك الموقف الصامت المذهل.
وفي الآية “أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ”، نجد أنفسنا أمام دعوة ربانية للتأمل في الكون وما فيه من بديع صنع الله، كيف جعل الليل مسكناً للراحة والطمأنينة، وجعل النهار وقتاً للرؤية والتمييز؟ إنه دعوة لإدراك عظمة الله وقدرته في خلق التوازن الكوني الذي يعيش الإنسان في ظلاله، تلك الآية تفتح أمامنا أبواباً واسعة للتفكر في الوجود، في السكون والحركة، في النهار والليل، وكلها دلائل على عظمة الخالق.
في الآية “وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ۚ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ”، تأخذنا الآية في رحلة روحية إلى ذلك اليوم العصيب الذي يسود فيه الفزع والدهشة، حيث لا يستطيع أحد أن يفر أو يهرب، وكل شيء سيكون تحت أمر الله، وكل الخلق سيتوجه إليه خاضعين ذليلين، هذا المشهد المهيب يُصوِّر لنا التغيرات الكونية التي ستحدث في ذلك اليوم، وكيف سيصطف الجميع أمام الله في خضوع تام، وكأن الآية تقول لنا: اليوم الذي نتقاعس فيه عن الاستعداد هو يوم لن ينفع فيه الندم.
أما في الآية “وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ۚ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ”، فإننا نجد أن الآية تذكرنا بأن كل شيء في هذا الكون، مهما بدا لنا ثابتاً، فإن نهايته ستحمل تغيراً مفاجئاً كما الجبال التي ستصبح كالريح السحابية في يوم القيامة، هذه الجمالية في الوصف تجعلنا نعيش حقيقة أن كل شيء في هذا الكون تحت يد الله تبارك وتعالى، وأن كل شيء في هذا العالم هو في حركة دائمة نحو ما يريده الله، عز وجل وأن صنعه “أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ” هو تجسيد لعبقريته وقدرته التي لا حدود لها.
وفي الآية “مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ”، نجد جمالية عظيمة تبرز في وعد الله للمؤمنين الذين قاموا بالأعمال الصالحة، بأن جزاءهم سيكون أعظم من أعمالهم، هذه الجملة تعكس عطف الله ورحمته، فالجزاء عنده ليس بقدر العمل فقط، بل هو مضاعف ومتفوق عليه، هذه الآية تذكرنا بأن التوكل على الله والإيمان به يضمن لنا الأمان في يوم القيامة، وتمنحنا الهدوء الروحي في مواجهة مصاعب الحياة.
إن هذه الآيات الكريمة بمجموعها تبعث في القلب شعوراً عميقاً بعظمة الله وجمال خلقه، وتهز الروح لتفكر في مصيرها وفي علاقتها بالخالق.
وفي ختام هذه الرحلة الروحية مع آيات سورة النمل، نجد أنفسنا أمام دعوة عظيمة للتفكر والتأمل في عظَمة الله سبحانه وتعالى وعجائب خلقه، هذه الآيات تُنير لنا الطريق نحو الفهم العميق لسر الوجود وحكمة الله في كل شيء، من الليل والنهار إلى مشهد القيامة والمصير الذي ينتظر كل إنسان، إنها تذكرنا بضرورة التواضع والتفكر في عواقب أعمالنا، وتحثنا على العودة إلى الله بالتوبة والعمل الصالح قبل فوات الأوان.
وكل آية من هذه الآيات تحمل بين طياتها رسالة قلبية تلامس روحنا، تفتح أمامنا أفقاً واسعاً من الإيمان واليقين في وعد الله، وتدفعنا للسعي في سبيل مرضاته، وفي عالمٍ مليء بالتحديات والضغوط، يبقى القرآن هو النور الذي يضيء دروبنا، ويبث في قلوبنا الأمل والطمأنينة.
فلنتذكر دائماً أن هذه الآيات، بما تحويه من إعجاز وبلاغة، ليست مجرد كلمات نقرؤها، بل هي دعوة مستمرة للاستغراق في معانيها والتأمل في دلالاتها، ومهما تأملنا فيها، فإننا نكتشف المزيد من الجمال والعظمة في كل مرة، ولن تكتمل مسيرتنا إلا بتسليم قلوبنا وعقولنا لله، والإيمان بأن هذا القرآن هو منبع الهداية لكل من يبحث عن الحق والسلام في هذا العالم المليء بالفتن.
عبد العزيز بدر عبد الله القطان / كاتب ومفكر – الكويت.