كان أمراً لافتاً لمن شاركوا ومن لم يشاركوا في قمة مجموعة «بريكس» الأخيرة التي استضافتها روسيا في قازان بين 22 و24 الشهر الماضي حضور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قمة هذه المجموعة على الرغم من أن تركيا تعتبر عضواً مؤسساً لحلف شمال الأطلسي (الناتو). وزاد الأمر إثارة بتردد معلومات تتحدث عن رغبة تركية في الحصول على عضوية مجموعة «بريكس».
سؤال: لماذا تفكر تركيا في ذلك، وهي تدرك مدى تناقض الأهداف والمصالح بين «بريكس» التي تسعى إلى التعددية في النظام الدولي، وحلف شمال الأطلسي بزعامته الأمريكية التي تتربع منفردة على النظام العالمي الحالي؟
هل هناك مشاكل حقيقية بين تركيا والناتو؟، وهل تريد تركيا لفت أنظار الناتو إلى أنه بمقدورها أن تتمرد، وأن تتخذ خطوات في الاتجاه الآخر المعارض؟ أم هي وصلت إلى طريق مسدود مع الناتو نظراً لـ«غربتها» في هذا الحلف باعتبارها الدولة الإسلامية الوحيدة في الحلف؟
لم تمر غير أيام قليلة حتى بدأت أصداء اجتماعات مع مسؤولين أكراد كبار تحت عنوان «تأسيس (كردستان الكبرى)»، تؤتي تأثيرها في أروقة صنع القرار التركي، وامتدت أيضاً إلى البرلمان خشية أن يتم «فتح الصندوق على العفريت الذي بداخله»، وعندها يمكن أن يتحول «الكابوس الكردي» الذي يفرض نفسه بقوة على القرار الاستراتيجي التركي إلى واقع مؤلم لا تستطيع تركيا أن تتعايش معه أو تقبل به. فلسنوات طويلة عملت تركيا بكل طاقاتها وتنوعاتها لوأد الدعوة الكردية للحكم الذاتي داخل دولة تركية فيدرالية وبسبب هذه الدعوة التي اعتبرتها تركيا (العلمانية والإسلامية) خطاً أحمر لا يمكن الاقتراب منه وضعت تركيا حزب العمال الكردستاني التركي المعارض بزعامة عبدالله أوجلان في قائمة «التنظيمات الإرهابية»، وأيدتها في ذلك الولايات المتحدة وحلف «الناتو»، وبسببها دخلت تركيا الحروب الدامية ضد حزب العمال الكردستاني داخل تركيا وامتدت المواجهة إلى ملاحقته وحلفائه في الأراضي السورية والعراقية ووجدت تركيا نفسها في مواجهة مباشرة مع البلدين.
المخاوف التركية من دعوة «كردستان الكبرى» التي تدعمها إسرائيل لا توصف، وترى تركيا أن دعم إسرائيل لهذه الدعوة تأتي بمثابة رد إسرائيلي على تعاطف تركيا مع حركة «حماس» في غزة و«حزب الله» في لبنان، لكن يبدو أن هذا الاعتقاد شديد التبسيط إذا أخذنا في الاعتبار ارتباط إسرائيل بقوة مع دعوة «إعادة التقسيم كأساس لإقامة الشرق الأوسط الجديد الذي تبشر به إسرائيل ضمن طموح دولة إسرائيل الكبرى».
الذين أدركوا هذا الخطر في تركيا أصواتهم بدأت تظهر للعلن حتى داخل البرلمان التركي إدراكاً منهم بأن هناك علاقة قوية بين دعوتي «كردستان الكبرى» و«إسرائيل الكبرى»، وبأن تركيا هي أول من سيدفع الثمن باعتبار أن الرقعة الجغرافية للأكراد في تركيا هي الأكبر مقارنة بكل من إيران والعراق وسوريا التي تضم مجموعات عرقية كردية لها طموحات لا تختلف عن طموحات حزب العمال الكردستاني سواء بالحكم الذاتي أو إقامة دولة «كردستان الكبرى».
لذلك بدأت تركيا في الاقتراب كثيراً من مواجهة الخطر عبر توجه شديد الحساسية، حرض عليه الرئيس رجب طيب أردوغان عبر حليفه التقليدي «دولت بهتشلي» زعيم حزب «الحركة القومية» الأكثر تطرفاً في ولائه للقومية التركية والأكثر تطرفاً في عدائه لدعوة الاستقلال الكردية.
فقد فاجأ بهتشلي الجميع من شركائه في التحالف الحاكم وفي المعارضة دعوة عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني الذي يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة للمجيء إلى البرلمان «لإلقاء كلمة وإعلان حل حزب العمال الكردستاني». دعوة بهتشلي التي اعتبرت بمثابة «جس نبض» للنوايا الكردية من دعوة إقامة «كردستان الكبرى» من جانب الرئيس أردوغان شخصياً لقيت معارضة شديدة خاصة من أحزاب المعارضة، لكن يبدو أنها لم تحظ بالقبول من جانب حزب العمال الكردستاني والأحزاب الكردية الحليفة خاصة في سوريا المدعومة أمريكياً. إلى جانب هذه الدعوة تسعى تركيا إلى فتح ملف علاقاتها مع حلف الناتو الذي تشعر بأنها تعامل فيه بسياسة تمييزية مقارنة بدول أخرى أعضاء أو حتى أصدقاء للحلف مثل أوكرانيا، ومن هنا كان الاتجاه التركي لفتح حوار مع قيادة «الناتو» بهدف الحصول على الدعم العسكري الكافي لحماية الحدود التركية خاصة ما يتعلق بتعزيز الدفاع الجوي التركي، في ظل قناعات بوجود مخاطر حقيقية تتهدد الأمن القومي التركي، وفي الوقت ذاته طالب أردوغان البرلمان بميزانية دفاع تعزيزية مالياً ومطالبة اللجان المختصة في البرلمان بزيادة مخصصات الدفاع.
هل يمكن أن يعطي أردوغان أولوية لحل الأزمة مع سوريا في توجه للتنسيق المشترك مع الأطراف المعنية بخطر دعوة «كردستان الكبرى»: إيران والعراق وسوريا؟ إجابة السؤال ستكشف جدية الإدراك التركي لهذا الخطر.
د. محمد السعيد إدريس