أثبتت «إسرائيل» المرة تلو المرة، أنها فوق الإدارة الأميركية رئيساً ووزراء، ونواباً، وشيوخاً، ومؤسّسات، ومنظمات، وأحزاب، وجمعيات، وهيئات.
لقد تمكّنت على مدى عقود عبر لوبياتها من غرس أنيابها الحادة في جسم الأجهزة الحساسة، ومراكز صنع القرار، وقبضت على رقبة كلّ من يجرؤ على التفوّه بكلمة ضدّها أو انتقادها، أو اتهامها من قريب أو بعيد تحت طائلة الملاحقة، وشنّ حملة شعواء عليه، وتشويه سمعته، وقطع رزقه وإلصاق اتهامها له بمعاداة السامية، إذ انّ معارضة «إسرائيل» من قبل أيّ كان، من المحرّمات، ويكلفه الكثير الكثير.
لا غرابة بعد ذلك أن نرى الإدارة الأميركية ابتداء من رئيسها الى أصغر موظف فيها تنبطح أمام «إسرائيل»، لنرى بوضوح كامل مدى التزلّف لها، وللوبياتها اليهودية، ولرؤساء حكوماتها، وهو انبطاح يتجاوز الحدود والمعقول، ويثير الاشمئزاز والسخط في نفس كلّ من يتابع العلاقات الأميركية «الإسرائيلية» منذ تأسيس كيان الاحتلال وحتى اليوم.
دولة عظمى تشاهد الإبادة الجماعية، والمجازر الوحشية للجيش «الإسرائيلي» في فلسطين ولبنان، لم يشهد العالم مثيلاً لها، ورغم ذلك لا تستطيع الدولة العظمى وقف الحرب، أو العمل على الحدّ من شروط نتنياهو التعجيزية لوقف إطلاق النار.
مبعوثو الولايات المتحدة يجولون في المنطقة بحثاً عن حلّ، وإذا بالرّسن «الإسرائيلي»، يكبّل أيديهم، ويقيّد تحركهم، ليوجّههم الى حيث تريد تل أبيب!
ما أقبح وأحطّ هذه الإمبراطورية العظمى عندما تتحكم سياساتها بمصير العالم، وتهيمن عليه، ثم نرى كياناً «إسرائيلياً» يمرّغ أنفها، ويروّض رئيسها المشارك في سفك الدماء في غزة ولبنان، المغطى بعباءة صهيونية، ويجبره على التزام الطاعة، وعدم اتخاذ أيّ قرار لا يرضى به الكيان.
هذا هو واقع بايدن الذليل، الذي ينطبق أيضاً على أعضاء الكونغرس في مشهد مقيت معيب، وهم يصفقون دون حياء وخجل لمجرم حرب مئة مرة، منها 54 مرة وقوفاً، حيث لم تشهد المجالس التشريعية في العالم مثل هذه الخفة، وهذا الانبطاح والتزلّف والانحطاط المهني.
إنّ السلوك السياسي المنحاز، والخضوع المهين للبيت الأبيض والكونغرس لـ «إسرائيل»، يأتي نتيجة نفوذها الواسع الكبير، ومخالب لوبياتها اليهودية داخل الولايات المتحدة، وفتكها وتضليلها لأفكار الأميركيين، واحتلال واستيطان هذه اللوبيات عقولهم، لا سيما عقول المبشرين، وأعضاء الكونغرس، والمؤسسات الإعلامية على أنواعها، وبالذات على عقول مقدّمي البرامج التلفزيونية على أنواعها، وعلى الأطقم التعليمية والإدارية في الجامعات. أضِف إلى ذلك، نفوذها الكبير مع جهاز الهاسبارا داخل البيت الأبيض وتأثيرها البالغ على قراراته، وعلى قرارات البنتاغون ذات الصلة بالكيان، ناهيك عن استعمار اللوبيات اليهودية مراكز صنع القرار وعقول المهيمنين على المصارف، والمؤسسات المالية والاقتصادية والصناعية، والبحثية والعلمية، والمعرفية الضخمة.
«المغربل» هوكشتاين يعرف جيداً كما يعرف غيره من المغربلين،
أنّ زياراته من المنطقة وإليها التي بلغت حتى الآن 11 زيارة،
لم تعط أكُلها، لأنّ الكلمة الفصل الأخيرة لوقف الحرب ليست في يد واشنطن، أو الوسطاء الأوروبيين والعرب، وإنما في يد نتنياهو، الذي خذل بايدن الصهيوني في اللحظة الأخيرة، ليقول له إنّ الكلمة الفصل هي لـ «إسرائيل». وهذا ما فعله نتنياهو بالذهاب بعيداً في حربه الهمجية على غزة ولبنان بغية فرض شروطه. إذ أنّ نتنياهو يعرف مسبقاً أنّ قراره سيجعل واشنطن تؤيّده وتدعمه رغماً عنها، وسيعيد بالتالي هوكشتاين الى بلاده بخفي حنين، تاركاً جزار تل أبيب يعربد في جرائمه العبثية، إلى حين أن يقول ميدان القتال كلمته الحاسمة.
لم يستطع أيّ رئيس أميركي حتى اليوم، الإفلات من قبضة وهيمنة اللوبي اليهودي على أيّ قرار أميركي بتعلق بـ «إسرائيل»!
ها هو الرئيس دونالد ترامب يطلّ من جديد على رأس الولايات المتحدة، فهل سيُغيّر من واقع الحال ويخرج عن سياسات الدعم لتل أبيب، والانحياز الكامل والوقوف المطلق إلى جانبها؟! أم انّ شبح اللوبي اليهودي سيظلّ يخيّم عليه لأربع سنوات، يرافقه في توجهاته وتحرّكاته وقراراته لجهة سياسته حيال «إسرائيل»، يأخذها بالاعتبار، وهو يضع في حساباته المستقبليّة الولاية الثانية، وحاجته الدائمة الى لوبياتها وبركتها في الداخل والخارج!
قد يأتي غداً الوسيط الأميركي الى المنطقة، لكن بأيّ أجندة سياسية! أهي لوقف الحرب وإخراج نتنياهو مكرهاً من المستنقع الذي غرق فيه، أم لنجدته وتقديم المزيد من الدعم السياسي والعسكري والمالي؟!
هل ستتحرّر الولايات المتحدة في عهد الرئيس الجديد القديم دونالد ترامب من نفوذ «إسرائيل» ولوبياتها، ام أنّ نتنياهو وزمرته العسكرية سيدفعانه إلى توسيع نطاق الحرب لإشعال المنطقة كلها، التي يجد فيها جزار تل أبيب، الولادة القيصرية التي لا بدّ منها لتغيير الشرق الأوسط، ويرى فيها محور المقاومة فيتنام جديدة لدولة الاحتلال، ومَن يقف خلفها؟
أيّ قرار سيتخذه الرئيس ترامب في المنطقة، الذي سبق له ان أطاح الاتفاق النووي، والقرارات الدولية ذات الصلة بفلسطين، واعترف بـ «سيادة إسرائيل» على الجولان، وبالقدس عاصمة أبدية للكيان، ونقل سفارته إليها، وإغلاقه لمكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن؟!
إلى جانب مَن سيكون ترامب هذه المرة؟! هل إلى جانب القرارات الأممية، وحقوق الشعوب، أم إلى جانب السياسة الأحادية التعسّفية، والقرارات الاستنسابية الظالمة، والاستمرار في دعم دولة العدوان على حساب حقوق شعوب المنطقة؟
الأيام المقبلة حبلى بالمفاجآت، وإنْ كنا لا ننتظر تغييراً جوهرياً في سياسة ترامب حيال «إسرائيل»، والفلسطينيين، والمنطقة، سياسة يرمي من خلالها إلى تغيير وجه الشرق الأوسط برمته، وإنْ كان ذلك على حساب القانون الدولي، وشعوب المنطقة وحقوقها المشروعة.
د. عدنان منصور/ وزير الخارجية والمغتربين الأسبق.