تتوجه الأنظار هذه الأيام شطر العاصمة الأمريكية واشنطن لقراءة نوايا وطلاسم الساكن الجديد للبيت الأبيض، وماذا عسى أن يحمل في جعبته هذه المرة تجاه العرب وقضيتهم المصيرية فلسطين؛ فالسؤال هو: هل هناك جديد يذكر نحو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ووقف الإبادة الجماعية في قطاع غزة؟ وقبل ذلك كله وقف الأسلحة الفتاكة الأمريكية التي تحملها طائرات (إف-35) كالقنابل التي تدمر الأحياء السكنية بالكامل على رؤوس أطفال غزة ولبنان؟
بالطبع الإجابة على ذلك تتجلى في السجل الأسود للإدارات الأمريكية المتعاقِبة، سواء كانت ديمقراطية أم جمهورية، فالكل يتسابق لإرضاء اللوبي الصهيوني والحكومة المتطرفة في الكيان المزروع في قلب الأمة؛ فالحكومة الأمريكية- أيًا كانت عقيدتها- هي الحامية لهذه الدولة المارقة التي تمثل محور الشر في المنطقة، فقد وفَّرت واشنطن لقادتها السياسيين والعسكريين الحصانة من العقاب في مختلف المحافل الدولية مرات عديدة من خلال “الفيتو” في مجلس الأمن، ومرات أخرى عبر التدخل المباشر لمنع المحكمة الجنائية الدولية من إصدار وتنفيذ أحكام بحق هؤلاء المجرمين الملطخة أياديهم بدماء الأبرياء، من أمثال نتنياهو وبن جفير ويوآف غالانت.
صحيحٌ أن دونالد ترامب كان الأكثر على الإطلاق بين رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية انحيازًا لإسرائيل خلال فترته الرئاسية الأولى، عندما قرر نقل السفارة الأمريكية إلى القدس الشريف عاصمة فلسطين؛ بل وصل به الأمر إلى استمالة وإجبار بعض الدول العربية لتسويق ما يُعرف بـ”صفقة القرن”، والتي تُجرِّد الشعب الفلسطيني من حقوقه، وكان في كل مساء يتحدَّث نتنياهو وجاريد كوشنر زوج بنت ترامب عن تحقيقهم اختراقات في إقناع دول عربية جديدة للانضمام إلى قافلة التطبيع مع إسرائيل، مطبقين مبدأ العصا والجزرة الذي يستخدم في مثل هذه الحالات، فهناك التلويح بالحماية الأمريكية تارة، وتارة أخرى بالتخويف من إيران، إلى جانب التلويح بضم تلك الدول إلى قائمة الإرهاب المزعوم من منظور أمريكي.
لقد غاب عن الجميع الحقيقة الواضحة وضوح الشمس، وهي أن القوى الاستعمارية الكبرى لا تستطيع أن تحمي أي دولة أخرى على الدوام؛ بل الذي يحمي الدول والأنظمة تمسكها بحقوق الأمة وثوابتها، وإقامة حكم عادل يُعبِّر عن آراء المواطنين وطموحاتهم نحو الحرية وإحقاق الحق والعدل، فضلًا عن التوزيع العادل للثروات والمناصب بين أفراد المجتمع. ولعل الجميع يتذكر كيف تخلّت أمريكا عن حليفها شاه إيران إثر الثورة الشعبية التي اقتلعت جذور تلك الإمبراطورية العظيمة.
شكّلت رئاسة ترامب الأولى أربع سنوات عجاف؛ وفرضت أجواءً مُلبدة بالغيوم خيّمت على سماء الأمة العربية قبل “طوفان الأقصى” المبارك، الذي أعاد للأمة اعتبارها؛ وكانت تلك السنوات الأربعة الأسوأ على الإطلاق في تاريخ العرب المعاصر. وعلى الرغم من تلك الفترة المظلمة، ظهرت في الأفق أصوات شُجاعة تعبِّر عن ضمير الشرفاء من أبناء هذه الأمة، وهنا أتذكر موقف جدير بالتقدير لرئيس مجلس الأمة الكويتي السابق مرزوق الغانم في مُؤتمر الاتحاد البرلماني العربي في الأردن، وذلك عند ما أمسك بنسخة من مستندات تتضمن تفاصيل حول “صفقة القرن” المزعومة وألقاها في سلة المُهملات، “مؤكداً أنَّ تلك الصفقة مكانها مزبلة التاريخ”.
يبدو لي أنَّ نجاح دونالد ترامب في الفوز بالانتخابات الأمريكية على منافسته كامالا هاريس، كانت خطوة غير متوقعة بسبب سجله الجنائي؛ حيث أدانته هيئة المحلفين في نيويورك بالفساد في أكثر من قضية أخلاقية، فضلاً عن تهم أخرى لم تحسم حتى هذه اللحظة، فهي في قائمة الانتظار، بهدف تحقيق العدالة وتطبيق القانون الفيدرالي. ويُشكِّل هذا الفوز منعطفًا ينذر بتراجع شديد للولايات المتحدة الأمريكية، التي تزعم قيادتها للعالم المتحضر، الذي في الواقع تجلى بانحداره إلى أسفل سافلين، حيث تخلى الناخب الأمريكي عن القيم والمبادئ التي يُعرف بها هذا الشعب.
ومن المفارقات العجيبة أن هناك 37 تهمة جنائية موجهة إلى ترامب، في سابقة من هذا النوع لرؤساء أمريكا، وتضمنت أهم هذه التهم: الاحتفاظ بوثائق سرية في منزله الشخصي تتعلق بالأمن القومي الأمريكي، وتهمتان تتعلقان بالإدلاء ببيانات كاذبة، هذا فضلًا عن التهرب الضريبي، وهي تهمة قديمة تعود إلى عدة سنوات. وسِجِل هذه الشخصية غريبة الأطوار يحوي الكثير والكثير من المخالفات والجرائم المتنوعة حسب لوائح الاتهام؛ فهناك اعتقاد يسود بين العديد من الساسة والباحثين، بأن انهيار أمريكا- إن حصل- سوف يكون على يد اليمين المتطرف الذي يمثله بعض أجنحة الحزب الجمهوري مثل ترامب وأنصاره، لا سيما بعد فوزه بالرئاسة ليكون الرئيس رقم 47 لأمريكا؛ كونه يميل إلى الفاشية والتعصب والعنصرية.
في الختام.. على كل أفراد أمتنا العظيمة التي اختارها الله لأن تكون خير أمة أخرجت للناس، الوقوف صفًا واحدًا في وجه العربدة الأمريكية التي يُمثلها ترامب ومساعدوه من مروجي “صفقة القرن”؛ فالتاريخ لا يرحم من يُفرِّط في المقدسات أو الأوطان أو من يتعاون مع الصهاينة ويخون الثوابت والأمانات، فقد أدركت الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج اليوم المؤامرات التي تُحاك ضدها.
د. محمد بن عوض المشيخي / أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري