لا أدري من يعطي للإعلام الحق في أن يكون جهة التحقيق القانونية، وسلطة إصدار الأحكام؟، بل كيف يبيح أي صحفي لنفسه أن ينشر ويذيع عورات الناس، سواء تحقق من وجودها، أو اختلقها اختلاقا، أليست هناك حدوداً قانونية وأخلاقية، ناهيك عن الحدود الدينية، التي يجب أن ترتفع أسوارها لستر عورات الناس؟؟
سوف يحتج البعض بأن “الإثارة والتشويق” هما مادة الإعلام ويردد المثل الذي أكل عليه الزمان وشرب: “إذا عض كلب رجلاً فذلك ليس خبراً، ولكن إذا عض رجل كلباً فذاك هو الخبر”، ورغم أن هذا المثل صحيح في مبناه إلا أن تطبيقاته مختلفة ومتضاربة وغير محددة، فلا شك أن نقل خبر عن واقعة رجل يعض كلباً يتضمن قدراً من الإثارة والطرافة لأنها خروج على المألوف وتبرز صورة عكسية صادمة تجذب القارئ.
والجرائم بأشكالها المختلفة تعد أيضاً خروجاً على المألوف بما يبرر الحرص على إبراز أخبارها، ولكن إذا بالغ المخبر الصحفي في تغطية الجريمة بانتهاك خصوصيات أطرافها ، أو بتوجيه الرأي العام وجهة معينة تجاه المتهمين ، فأن المسألة هنا لا تتعلق بإثارة أو تشويق وإنما – في تقديري – اعتداء سافر علي حقوق هؤلاء المتهمين.
وربما يتحجج البعض الآخر بأن “الجمهور عاوز كده”، وأن مالك الوسيلة الإعلامية “عاوز كده” أيضاً لزيادة التوزيع والمبيعات وبالتالي زيادة الإعلانات، وباختصار المسألة تتعلق باقتصاديات الإعلام.
وربما يكون لتلك الحجة وجهاً من الحقيقة، فأغلب الناس يسيل لعابها على فضائح الآخرين، بغض النظر عما إذا كان يقبل ذلك على نفسه، ويدلل أصحاب هذه الحجة على ذلك بالتوزيع الكبير لصحف الإثارة الصفراء، بالمقارنة مع الصحف الجادة، بل عدم اكتراث أغلب القراء بالمقالات والأخبار السياسية والثقافية والاقتصادية قياساً على اهتمامهم بصفحات الرياضة والحوادث.
وقد يضيف البعض لما تقدم دراسات نفسية تؤكد انفتاح شهوة الناس لابتلاع فضائح الآخرين، للبرهنة على أن ذلك مكون أساسي في الإنسان بغض النظر عن ثقافته أو محدداته الدينية والأخلاقية والقانونية، وأن الوسيلة الإعلامية تلبي احتياج هذا الإنسان.
تقديري – وقد أكون مخطئاً – أن ذلك التعميم غير علمي وغير صحيح على إطلاقه، ولست استثناءً في شعوري بالتقزز لاقتحام خصوصيات الناس دون إذن منهم، أو استغلال سقوطهم للتكاثر مثل الذباب على عيوبهم، وأظن أن أي نفس سوية تعف عن ذلك، فلا يمكن أن تكون تلك الرغبة الشريرة في اقتحام خصوصيات الناس مكوناً أساسياً في الإنسان، بل إنها تعكس مرضاً نفسياً لا بد من علاجه.
إن الرسالة التي يحملها الإعلام لا ينبغي تلويثها بأبجديات السوق، خاصة إذا كانت تلك الأبجدية قد تدهورت وانحطت، فالوسيلة الإعلامية ليست مجرد مشروع تجاري، وإنما هي قبل ذلك إحدى الأدوات الهامة للمعرفة والتنوير، وإذا لم تكن مطالبة بقيادة حركة إصلاح شامل، فعليها على الأقل أن تمهد لذلك، لا أن تكون بعض أدوات هدم ما تبقى من مخزون قيمي للمجتمع.
وربما يحتج فريق ثالث بأن ما نقلته الصحف لم يكن سوى تصريحات للمتهم أو محاميه، وأن كل ما نشر أتيح لتلك الصحف بواسطة أطراف الواقعة نفسها، وأن دور وسائل الإعلام لم يكن سوى النقل الأمين لتلك المعلومات المتاحة، ولا توجد شبهة اقتحام خصوصيات في الموضوع. وأقول حتى لو صح ذلك، فإنه ليس كل ما يعرف يقال، بل لا بد أن يكون هناك فرز ونخل وتمييز، وإلا وجدت الشتائم والألفاظ النابية طريقها إلى وسائل الإعلام، فضلاً عن أن المتهم في محاولته للدفاع عن نفسه قد يبالغ في تعرية عورات الضحية، كما أن دفاع الضحية من مصلحته تشويه صورة المتهم، ولا يمكن لإعلام يدرك قيمته أن يرضى لنفسه أن يكون كرة يتلاعب بها أطراف القضية.
والأهم من كل ما تقدم هو أن سلامة التحقيقات في أي قضية تقتضي توفير المناخ الملائم لجهات التحقيق والفصل كي تصل إلى الحقيقة، بل إن مصلحة المتهم تتطلب توفير ضمانات قانونية أبرزها حقه في الصمت والاستعانة بمحامٍ حتى لا يتورط في تصريحات تضر بموقفه في القضية.
من المزعج حقاً أن يخوض الإعلام بلا روية في أعراض الناس وما يمس شرفهم بحجة حق الرأي العام في المعلومات، فالإسم الحقيقي لذلك ليس نقلاً لمعلومات، وإنما قذف وسب وادعاء كاذب لم يثبت القضاء بعد صحته، فما هي مصلحة الرأي العام في الاطلاع على المغامرات الجنسية لمتهم، أو لادعاءاته بشأن مطاردات غرامية أو سلوكيات غير لائقة لضحية لا تستطيع أن تدافع عن نفسها لأنها فارقت الحياة.
أخشى أن ينبري البعض كي يتهم هذه السطور بأنها تهدف إلى تقييد حرية الصحفي، أو أنها تحض على تهديده وسجنه، وذلك أبعد ما يكون عن قصدي أو فهمي لمعنى حرية الصحفي أو حرية التعبير بمعناها الأوسع، إلا أنني أرى أهمية أن نمارس النقد الذاتي لتنقية السطور من بعض ما يشوبها من قصور، أن نرتقي كتاباً وقراءً فيما نكتب أو نقرأ، فلا يمكن ادعاء حصانة ضد تجاوز لأبسط حدود الأخلاق والقانون والدين.
وأتصور أن هناك فارقاً بين “الإثارة” كأسلوب في الصياغة، وبينها كأسلوب لدغدغة مشاعر وأمراض وأوهام بعض القراء، ولا أظن أن من واجبات المخبر الصحفي أن يهتك أستار خصوصيات الناس كي يتصيد عوراتهم وعاهاتهم ويعرضها على الناس، حتى ولو كانت الناس “عاوزه كده”. ومع احترامي لمهنة القلم المقدسة وكل من يحمله مشعلاً في المجتمع، أقول إن الله يستر عورات الناس، فلا تفضحوها، سترنا الله وإياكم.
معصوم مرزوق