إنَّ الانتقال بالخطط التنمويَّة والاقتصاديَّة من حيِّز التَّنظير والدِّراسات المكتبيَّة إلى أرض الواقع وتحقيقها للأولويَّات الوطنيَّة ومستهدفات رؤية «عُمان 2040»، وتحقق فرص النَّجاح لها وكفاءتها في تحقيق الأهداف والغايات الوطنيَّة العُليا، وانتقال أثرها إلى المواطن في معيشته اليوميَّة وبناء أُسرته والقيام بمسؤوليَّاته وتنفيذ مهام عمله يرتبط إلى حدٍّ كبير باستحضار في احتواء مشاعر المواطن ومراعاة خصوصيَّاته وتفاعلها مع أولويَّاته واهتماماته، وتضع لرغباته واحتياجاته أهميَّة كبيرة في برامجها ومشروعاتها وأُطر عملها، الأمْرُ الَّذي يُعزِّز من مستوى التَّناغم النَّفْسي والتَّكامل العاطفي وتفاعل خيوط التَّرابط والانسجام بَيْنَ المكوِّن الفكري والنَّفْسي والعاطفي الَّتي يصنع لحياة الإنسان التَّوازنات ويحقِّق له القوَّة في رسم خريطة واقعه ومستقبله، وعِندما تبتعد الخطط التنمويَّة عن استحضار البُعد النَّفْسي ولا يكُونُ لمشاعر المواطن وقناعاته وإلهامه وهواجسه أيَّة حضور في برامج الخطَّة ومستهدفاتها عِندها تُصبح جوفاء تفتقر للحيويَّة والحركة والمرونة، فتؤدِّي هذه الفجوة والتَّباينات وغياب منصَّات الالتقاء إلى التَّقاطعات وغياب خطوط الالتقاء والتَّغريد خارج السِّرب، فلا برامج الخطط التنمويَّة والاقتصاديَّة تستوعب احتياجات المواطن وتُلبِّي مطالبه؛ ولا المواطن ـ المستهدف بهذه الخطط ـ قادر على التَّكيُّف مع ما تطرحه هذه الخطط من برامج وأجندة، إما لكونها برامج ومشروعات وخططًا مكتبيَّة لا ترصد حقيقة ما يجري على أرض الواقع أو تستحضر التحدِّيات الَّتي يواجهها المواطن في غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار وغياب الشفافيَّة، لذلك تُصبح مجرَّدة لا يستفيد مِنْها، أو معطَّلة خارج إطار التَّشغيل والاهتمام، لذلك كان نجاح أيِّ خطَّة تنمويَّة، مرهون بمستوى حضور المواطن، الغاية والوسيلة والمستهدف من هذه الخطط في أولويَّات الاهتمام وأبعاد الصورة، كما أنَّ تهيئة المواطن نَفْسيًّا لِمَا يُمكِن أن تطرحَه هذه الخطط من برامج وممكنات ومشاريع وغيرها سيكُونُ له أثره الإيجابي في قَبول المواطن لها وتفاعله معها واستشعاره لأهميَّتها واستحضاره لأدواره ومسؤوليَّاته نَحْوَها، فيستنطق القِيَم والثَّوابت ويستنهض العزيمة والإرادة ويتفاعل مع تفاصيل ما يجري في قِطاعات الدَّولة بكُلِّ احترافيَّة.
من هُنَا كانتِ الحاجة إلى حضور البُعد النَّفْسي في أجندة الخطط التنمويَّة، سواء على شكل برامج ومبادرات وتشريعات وإجراءات ومحفِّزات وآليَّات وأدوات على مستوى القِطاعات والمؤسَّسات كغيره من الأبعاد الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة والفكريَّة والتقنيَّة، خيارًا استراتيجيًّا وضرورة تنمويَّة تتعدى المزاجيَّة والوقتيَّة، بما يفرضه من محتوى نَوْعي يتَّجه لصناعة التَّوازنات في شخصيَّة المواطن، ويتفاعل مع المؤثرات الأخرى الداخليَّة والخارجيَّة والعوامل السلبيَّة الَّتي باتَتْ تؤثِّر في إنتاجيَّة المواطن وقدرته على التَّكيُّف مع مجريات العمل الوطني، فهي من جهة تهيئ المواطن للتَّكيُّف والتَّعامل الواعي مع أيِّ مطبَّات أو تحدِّيات أو صدمات قادمة يتعرض لها بفعل نشاط أحَد هذه العوامل السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة مثلًا؛ لِمَا لها من دَوْر كبير في ارتفاع سقف التَّغييرات الَّتي باتَ يشهدها العالَم وتؤثِّر بشكلٍ كبير على السَّلام الدَّاخلي، والاستقرار والرَّفاه الاجتماعي وإنتاجيَّة المواطن وثوابته وهُوِيَّته وحصوله على حقوقه، ذلك أنَّ تمكين المواطن نَفْسيًّا ورفع درجة الجاهزيَّة النَّفْسيَّة لدَيْه وتعظيم مفاهيم الصحَّة النَّفْسيَّة والذَّوق والمشاعر العامَّة، والخصوصيَّات، وتوفير البيئة الصحيَّة الحواريَّة الآمنة في الأُسرة والبَيْتِ والعمل، والتَّعايش مع المشتركات، والتَّكيُّف مع الظُّروف الصَّعبة وإدارتها، من شأنه أن يقلِّلَ من الهواجس وردَّات الفعل السلبيَّة والقناعات غير السَّارَّة، وعِندما يقوى البُعد النَّفْسي وتجد قِطاعات الدَّولة أنَّ تحقيقَ ذلك استحقاقًا وجوبيًّا يَجِبُ أن تجندَ له المؤسَّسات البرامج والخطط والمنصَّات والتَّشريعات والقوانين الَّتي تحافظ على حضوره وتسهم في رسم ملامحه، عِندها سيكُونُ المواطن في طمأنينة من العيش، واستقرار في الفكر، وراحة بال، وسلام داخلي، وتَبنِّي مواقف إيجابيَّة حَوْلَ ذاته وجهود التَّنمية وعمل المؤسَّسات؛ لأنَّه يدرك أنَّ عدم تحقُّق الأولويَّات الوطنيَّة خصوصًا المرتبطة بالتَّشغيل والتَّوظيف والرَّفاه الاجتماعي والاستقرار المعيشي، وغيره ـ رغم أنَّها ثوابت وطنيَّة يَجِبُ على الدَّولة تحقيقها ـ إنَّما هو نتاج أسباب خارج إطار الدَّولة وتفوق قدرات المؤسَّسات، أو أنَّ المرحلة الحاليَّة تستدعي من المواطن التريُّث والانتظار وفتح آفاقٍ أوسع للحوار مع المؤسَّسات، ورفع سقف المعرفة اليقينيَّة لدَيْه وتعظيم فرص البحث والاستقرار، ويبقى دَوْر المؤسَّسات في استلهام هذه الصورة التفاعليَّة عَبْرَ وضع المواطن في صورة ما يجري في المؤسَّسات بكُلِّ شفافيَّة ووضوح، الأمْرُ الَّذي سيضْمَن وقوف المواطن مع هذا التوَجُّه وتفاعله معه، ومساعدة الدَّولة في الحدِّ من تأثيرات المُشتتات الأخرى ونشاطها.
وإنَّ من بَيْنِ الموجِّهات النَّفْسيَّة الَّتي يَجِبُ على منظومات الدَّولة توجيهها لخدمة المواطن ورفع درجة المواطنة لدَيْه وتعميق الهُوِيَّة؛ يُشار إلى إدارة المشاعر والذَّوق العامِّ للمواطن، وتجنيبه كُلَّ ما يعكِّر مزاجَه ويغيِّر مشاعره أو تُسبِّب له الإحباط وعدم الثِّقة وغياب المصداقيَّة، وهو أمْرٌ باتَ يرتبط بكثرة التَّغييرات في الإجراءات، أو عدم الوضوح والشفافيَّة وغياب سقف المتاح من المعلومات للمواطن في طريقة تنفيذ هذه القرارات؛ ولعلَّ منظومة الحماية الاجتماعيَّة وحجمَ التَّباين والاختلاف الَّذي يَدُور بشأنها، أحَد هذه الأنماط الَّتي باتَتْ تفتقد للبعد النَّفْسي، وما أوجده هذا التسرُّع في إقرار المنافع أو ضبطها من ارتباك في القرار وغياب المهنيَّة وتراجع في الإنجاز، وتغييب للثِّقة ورفع درجة القلق لدى المواطن وغياب الشفافيَّة، وشعور المواطن بأنَّ نظام الحماية الاجتماعيَّة لم يَعُدْ يمتلك ممكنات الحماية لِنَفْسِه، في ظلِّ ما باتَ يتَّخذه من إجراءات تتَّسم بعدم المبالاة أو مراعاة مشاعر المواطن، وأحكام تعجيزيَّة لا تتناسب مع خصوصيَّة الحالة العُمانيَّة، ويفترض أن يُقدِّمَ النِّظام محتوى منافع نَوْعيَّة مستحقَّة للمواطن وتُعبِّر عن الظُّروف الَّتي يعيشها، إذ إنَّ عدم الثَّبات والوضوح في الإجراءات وارتفاع سقف التعجيزيَّة في طبيعة إقرار المنافع والمستحقين لها، باتَ يطرح التَّساؤل: لماذا وُجِدَ هذا النِّظام؟ ألا يفترض أن يكُونَ نتاجًا لواقعٍ يعيشه المواطن وحلًّا للتَّحدِّيات الاقتصاديَّة والظَّواهر الاجتماعيَّة الَّتي باتَتْ تنتشرُ في المُجتمع، ويفترض من نظام الحماية أن يعملَ على سدِّ كُلِّ الثَّغرات والمُسبِّبات لهذه الظَّواهر، فإنَّ هذا التَّعقيد في الإجراءات والتَّضيِّيق على المواطنين في مواردهم واستحقاقات حصولهم على المنافع، وعمليَّة القطع والإنذار الَّتي باتَتْ تتَّخذها مؤسَّسات الخدمة العامَّة (الكهرباء والماء وشركات الاتِّصالات) لا تراعي ظروف المواطن، سواء كان في اختيار التَّوقيت لإغلاق أو وقف الخدمة، أو في ارتفاع التَّعرفة والرُّسوم المقرَّرة، الأمْرُ الَّذي باتَ يتسبَّب في ردَّات فعل سلبيَّة وإحباط للمواطن وتغييبٍ حقيقي للتَّفاؤل والإيجابيَّة؛ وما حالة السّخط والتَّذمر والتَّنَمُّر وردود الأفعال السلبيَّة والتَّغيُّرات السَّالبة عِندما تطرح الحكومة أيَّ برنامج وطني لتتَّجِهَ منصَّات التَّواصُل الاجتماعي إلى تكوين صورة سلبيَّة حَوْلَ هذا التوَجُّه، ومخاطر نتائجه السلبيَّة وظلمه لحقوق المواطنين المستهدفين مِنْه.
أخيرًا، فإنَّ من بَيْنِ الأمور الَّتي يَجِبُ التَّأكيد عَلَيْها في تعظيم البُعد النَّفْسي في الخطط التنمويَّة والاقتصاديَّة ومستهدفات رؤية «عُمان 2040»، تأتي مراعاة الخصوصيَّة الاجتماعيَّة، وتعظيم الحوار الاجتماعي والمؤسَّسي، وترقية الخِطاب الإعلامي الإيجابي الَّذي يُتيح للمواطن فرص التَّفاعل وتقديم وجهات النَّظر، ودَوْر الأقلام المضادَّة في سَبر أعماق هذه المحطَّات الإعلاميَّة، فإنَّ تعظيم الشفافيَّة وتبادل المعلومات والتَّحديث المستمر للمؤشِّرات الاجتماعيَّة وتعريف المواطن بأعداد الباحثين عن عمل والمُسرَّحِين، والإفصاح عن الجرائم والظَّواهر السلبيَّة والمشكلات المُجتمعيَّة الاقتصاديَّة وأسباب الطَّلاق وتصدُّع العلاقات الاجتماعيَّة، إذ من شأن وضوح هذه المؤشِّرات للمواطن ومعرفته بخيوطها وأسبابها ومسبِّباتها؛ أن يُسهم في مشاركة المواطن في حلِّها وتقديم البدائل والحلول المنتِجة، بالإضافة إلى رفع درجة التوسُّع في الخيارات والبدائل المتاحة للمواطن في سبيل تمكينه من استثمار الفرص وتعزيز العمل الحُر والرِّيادة والمشاريع المتوسِّطة والصغيرة، وتجنيبه عن كل ما يؤدي إلى الجهل المعرفي والشَّائعات عَبْرَ حُسن الاختيار والانتقاء والتَّصحيح والتَّحليل والمراجعة والتَّدقيق في المعارف والمعلَّبات الفكريَّة الَّتي وصلت إِلَيْه، لينشط في إنتاج الحلول وتوفير الخيارات وتقديم بدائل أكثر أمانًا وانتاجيَّة.
د.رجب بن علي العويسي