عاد دونالد ترامب مجدداً إلى البيت الأبيض، في عودة ليست كأي عودة، وصفتها مجلة «نيوزويك» الأمريكية بأنها «أعظم عودة في تاريخ السياسة الأمريكية»، وفسرت ذلك بأنه «لم يتم انتخاب رئيس أمريكي لفترتين غير متتاليتين منذ «غروفر كليفلاند عام 1892»، وبأن ترامب حقق هذا الإنجاز «ليس من خلال استراتيجية حشد قاعدته الانتخابية فقط، بل وأيضاً من خلال توسيع الخريطة الانتخابية للحزب الجمهوري»، ما يعني أن فوز ترامب هذه المرة لم يجئ بأفضال القاعدة الانتخابية التقليدية للحزب الجمهوري فقط، بل جاء بالأساس بفضل ترامب الذي وسّع القاعدة الانتخابية للحزب، بضم شرائح كثيرة من الناخبين الجدد للحزب الجمهوري، خاصة من الرجال من أصل إسباني أو الرجال السود، ودخول رموز مجتمعية جديدة، وقفت إلى جانب ترامب، ستضيف حتماً قوة جديدة للحزب الجمهوري، من أمثال إيلون ماسك، وروبرت ف. كنيدي (المنشق عن الحزب الديمقراطي) وتولسي جابارد وغيرهم.
الأمر الذي جعل ويليام بينيت يكتب على موقع «فوكس نيوز» متسائلاً: كيف غيّر ترامب الحزب الجمهوري؟
مثل هذه الآراء والأفكار، ترجح أن أهم تأثيرات وأدوار دونالد ترامب خلال السنوات الأربع القادمة التي سيحكم فيها الولايات المتحدة سوف تتركز على الداخل الأمريكي، وأن أي أداء لإدارة ترامب في مجال السياسة الخارجية سيكون محصلة لنجاحات أو لفشل ترامب في إنجاز مشروعه السياسي المحوري الذي يلخصه شعاره الانتخابي «فلنجعل أمريكا عظيمة مجدداً»، وهو ذات الشعار الذي حملته الحركة السياسية التي يتزعمها ترامب، والتي جرى منها توليد مفهوم «الترامبية السياسية» التي بدأ الحديث عنها مجدداً بأنها «أضحت عقيدة سياسية» لترامب شخصياً ومن يلتفون حوله، وأولهم بالطبع نائبه الذي اختاره هذه المرة بعناية من بين عشرات الأشخاص الذين كانوا على قائمة الاختيار لهذا المنصب، وهو السيناتور الجمهوري عن ولاية أوهايو جيمس ديفيد فانس، الذي يؤكد اختياره من جانب ترامب لهذا المنصب عزم ترامب ليس فقط على فرض «الترامبية السياسية» كقاعدة للحكم خلال السنوات الأربع القادمة، بل وعلى توريثها كعقيدة جديدة للحزب الجمهوري الذي بات خاضعاً تماماً لسيطرته.
وبفوز هذا السيناتور الشاب البالغ 39 عاماً بمنصب نائب الرئيس إلى جانب ترامب، فإنه من المرجح أن يكون الأوفر حظاً لخوض السباق الانتخابي الرئاسي الجديد عام 2028، وقد لا يترك البيت الأبيض إلا في عام 2037 إذا فاز مرتين بالرئاسة، وبذلك ضمن ترامب ل «الترامبية السياسية» عمراً سياسياً مديداً يصل إلى 12 عاماً كاملة يفترض أن تكون كافية لترسيخ مكانة «الترامبية السياسية» كأساس للحكم في واشنطن تحت شعار «لنجعل أمريكا عظيمة مجدداً»، وعندها لن يكون هناك مجال جديد لوصف تلك «الترامبية السياسية» على أنها «مجرد ظاهرة صوتية» على نحو ما تردد في السنوات الأربع السابقة لحكم ترامب في البيت الأبيض (2016- 2020)، أو أنها مجرد «رد فعل غاضب» لمن ساءهم (خاصة من الأمريكيين بيض البشرة) انتخاب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة لمدة ثماني سنوات (2008 – 2016) بل ستفرض نفسها بقوة كأساس للحكم بعد الفوز الهائل الذي حققه ترامب هذه المرة يوم الثلاثاء الماضي (2024/11/5). فترامب لم يفز في هذه الانتخابات بالعدد الأكبر من الأصوات في «المجمع الانتخابي» فحسب، مثلما حدث في انتخابات عام 2016 التي تفوق فيها على المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون التي خسرت الأصوات في المجمع الانتخابي رغم فوزها بالنصيب الأوفر من الأصوات على المستوى الشعبي، بل فاز أيضاً بالتصويت الشعبي (أي عدد أصوات الناخبين)، وإضافة إلى ذلك جاء فوزه كرئيس مقروناً باستعادة الحزب الجمهوري للأغلبية داخل مجلس الشيوخ، بحيث بات في مقدور ترامب أن يحكم مدعوماً من مجلسي الكونغرس (النواب والشيوخ).
رغم ذلك، سيبقى الاختبار صعباً أمام ترامب ونائبه جيمس ديفيد فانس، وبالتحديد اختبار «جعل أمريكا عظيمة مجدداً». هل سيستطيع ترامب جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى؟
الاختبار سيكون صعباً بمقاييس ترامب نفسه التي سبق أن أعلنها متحدياً إدارة غريمه الرئيس الحالي جو بايدن. فترامب هو الذي أعلنها صراحة أن «الولايات المتحدة أصبحت مزبلة العالم» نتيجة لعدم كفاءة الرئيس جو بايدن، وهو الذي تعهد ب «تحرير أمريكا المحتلة» من المهاجرين غير الشرعيين، واعتبر أن عودته إلى البيت الأبيض «ستكون تحريراً لأمريكا المحتلة»، وقال إن «أمريكا معروفة اليوم في كل أنحاء العالم بأنها أمريكا المحتلة.. نحن محتلون من جانب قوة إجرامية»، وهو الذي تعهد بأنه «سينتقم من كل معارضيه إذا وصل إلى الحكم»، خاصة الرئيس الحالي جو بايدن والقضاة وغيرهم من الخصوم السياسيين خاصة اليساريين والليبراليين.
هل سينجح ترامب في هذا الاختبار الصعب؟ وهل سيتركه الديمقراطيون ليفعل بهم ما يشاء، أم ستتمرد الولايات الديمقراطية، عندها يمكن أن تتحول «الترامبية السياسية» إلى «كابوس يهدد وحدة الولايات المتحدة»؟
د. محمد السعيد إدريس