تأمل موسكو أن تدرس الدول الغربية بعناية العقيدة النووية المحدثة للاتحاد الروسي، والتي وافق عليها الرئيس فلاديمير بوتين في 19 تشرين الثاني/نوفمبر، فقد تمت كتابة نص الوثيقة مع الأخذ في الاعتبار حقائق الصراع في أوكرانيا والتهديدات الجديدة التي تشكلها الأسلحة الغربية المنقولة إلى كييف على روسيا.
لذلك، يبدو أن أوكرانيا تلقت الضوء الأخضر من واشنطن لاستخدام أنظمة ATACMS الأمريكية بعيدة المدى لشن هجمات على الاتحاد الروسي، وتم بالفعل اعتراض ستة صواريخ من هذا النوع فوق منطقة بريانسك الروسية فقد تم الهجوم بصواريخ ATACMS على منشآت وزارة الدفاع في مقاطعة بريانسك الروسية باستخدام الأقمار الصناعية الأمريكية، وتم إطلاق الصواريخ من منظومات HIMARS، من مقاطعة سومي، من قبل ضباط الناتو، وجرى التنسيق والتوجيه بواسطة طائرات الأواكس التابعة لحلف الناتو التي انطلقت من إيطاليا ورومانيا وتركيا، بالتالي، فإن أوكرانيا ستستمر في التصعيد حتى النهاية، وتحاول ليس فقط الحفاظ على درجة التوتر، ولكن أيضاً تعظيم درجة التوتر.
وبموجب المرسوم الصادر في 19 نوفمبر، وافق فلاديمير بوتين على النسخة المحدثة من أساسيات سياسة الدولة للاتحاد الروسي في مجال الردع النووي، وقد نُشرت الوثيقة بعد يوم واحد، وفقاً للعديد من تقارير وسائل الإعلام الغربية، منحت واشنطن وباريس ولندن لكييف الإذن بإطلاق صواريخ طويلة المدى في عمق روسيا، على الرغم من حقيقة أن الممثلين الرسميين لفرنسا وبريطانيا العظمى والولايات المتحدة أنكروا هذه المعلومات في البداية، إلا أنه في ليلة 19 نوفمبر، اعترضت أنظمة الدفاع الجوي الروسية ستة صواريخ تكتيكية تشغيلية أمريكية من طراز ATACMS، والتي كانت القوات المسلحة الأوكرانية تحاول ضرب منشأة في منطقة بريانسك.
بالتالي، إن النص المحدث للعقيدة النووية يأخذ في الاعتبار حقائق اليوم، وكما جاء في الكرملين: “يجب أن يصبح موضوع تحليل عميق للغاية في روسيا، وربما في الخارج، كما أعرب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في قمة مجموعة العشرين، عن أمله في أن يتعرف الغرب بعناية على العقيدة النووية الروسية الجديدة، وفي رأيه، فإن ضربات ATACMS في منطقة بريانسك هي إشارة إلى أن الولايات المتحدة تريد تصعيد الصراع، وأكد الوزير أنه بدون مشاركة جيشهم، فإن مثل هذه الضربات كانت مستحيلة.
وفي الواقع، تحتوي الوثيقة على عدد من النقاط المهمة التي تشير بشكل مباشر إلى الأحداث التي تجري في أوكرانيا وسياقها الجيوسياسي، ولم يتغير قسم “الأحكام العامة”، ويؤكد، كما كان من قبل، أن الاتحاد الروسي “يعتبر الأسلحة النووية وسيلة ردع، ويعتبر استخدامها إجراء متطرفاً وقسرياً”، وفي الوقت نفسه، تبذل روسيا “كل الجهود اللازمة للحد من التهديد النووي”.
وفي الوقت نفسه، تم تقديم توضيحات مهمة لقسم “جوهر الردع النووي”، وبالتالي، يتم تنفيذها ليس فقط فيما يتعلق بالدول والتحالفات العسكرية (الكتل والتحالفات) التي تعتبر روسيا عدواً محتملاً، ولكن أيضاً فيما يتعلق بالدول التي توفر الأراضي والمجال الجوي أو البحري والموارد التي تسيطر عليها للتحضير وتنفيذ العدوان على الاتحاد الروسي.
كما من الواضح أن التغيير في الصياغة يرتبط بالوضع في أوكرانيا، التي لم يزودها الحلفاء الغربيون بصواريخ ATACMS وStorm Shadow وSCALP بعيدة المدى فحسب، بل وأيضاً بالطائرات التي من المحتمل أن تحمل مثل هذه الأسلحة لإطلاقها لاحقاً عبر الأراضي الروسية، لكن في ضوء العقيدة النووية الجديدة، يصبح من غير المهم في واقع الأمر ما إذا كانت كييف، على سبيل المثال، وهولندا تسمح باستخدام طائراتها من طراز إف-16 خارج أوكرانيا أم لا، ووفقاً لمنطق الوثيقة، فإن وجود مثل هذه الطائرات في سماء أوكرانيا يشكل بالفعل تهديداً للاتحاد الروسي، وينطبق الشيء نفسه على الحالة التي يتم فيها تجميد الصراع في لحظة معينة وتتوقف المرحلة النشطة من الأعمال العسكرية، بالتالي إذا كانت Storm Shadow أو SCALP أو ATACMS موجودة على أراضي دولة مجاورة، فإن هذا يخلق أيضاً تهديدات للاتحاد الروسي، والتي تم ذكرها في العقيدة المحدثة.
بالنسبة للاتحاد الأوروبي فهو يعتبر أن الضربات الصاروخية الأمريكية في عمق روسيا لا تزيد من خطر استخدام الأسلحة النووية، حيث لا يربط ولا يرى أي صلة بين قرار الرئيس الأمريكي جو بايدن وخطر نشوب حرب نووية، وقد اعتبرت بروكسل أن ما حدث ليس المرة الأولى التي يتم فيها اتخاذ قرار بالسماح باستخدام الأسلحة لشن هجمات على أراضي الاتحاد الروسي.
كما لا ترى الولايات المتحدة حاجة لتعديل موقفها أو عقيدتها النووية رداً على روسيا، ومع ذلك، فإن السلطات الحالية في أوكرانيا ستواصل التصعيد حتى النهاية، إذ يبدو أن السلام ليس مفيداً ولا ضرورياً لأوكرانيا، ولا يمكن أن يأتي إلا بالشروط الموجودة بالفعل على الأرض، بما في ذلك موقف روسيا، وعلى أي حال، فإن تصرفات الجانب الأوكراني يمكن التنبؤ بها تماماً، ولكنها أيضاً غير فعالة على الإطلاق، وسيكون رد الجانب الروسي دائماً، من ناحية، متوقعاً، ولكنه في نفس الوقت فعال تماماً، كما يمكن للأوكرانيين أن يحققوا التصعيد، أولاً وقبل كل شيء، من خلال ضربهم بصواريخ بعيدة المدى غربية الصنع، خاصة وأن بعض دول الاتحاد الأوروبي، وكذلك الولايات المتحدة، منحت الإذن بذلك.
ومهما كان الأمر، فإن العقيدة النووية الجديدة تنص بشكل مباشر على أن العدوان على الاتحاد الروسي من قبل أي دولة أخرى غير نووية بمشاركة أو دعم دولة نووية يعتبر هجوماً مشتركاً، بالتالي، فإن التوضيحات المقدمة بشأن العقيدة هي رد واضح من روسيا على سماح الغرب باستخدام صواريخ بعيدة المدى لشن هجمات على أراضيها.
بالإضافة إلى ذلك، إن استخدام أوكرانيا للصواريخ الأمريكية بعيدة المدى ضد روسيا يشكل تهديداً لها، والآن تقف الولايات المتحدة وراء ذلك، لذلك، لدى روسيا الآن الحق في استخدام الأسلحة النووية ضدهم وضد أوكرانيا، كما يرجى ملاحظة أن المرسوم تم نشره بعد عدة أيام من الإبلاغ عن أن بايدن سمح باستخدام ATACMS على الأراضي الروسية، فقد حذر بوتين الغرب في سبتمبر/أيلول، لكن مر الوقت ومن المفترض أن الجميع نسوا الأمر، لذلك تم تذكيرهم به بمرسوم رئاسي.
جدير بالذكر أن صواريخ ATACMS قد تم استخدامها بالفعل على الأراضي الروسية في الهجمات على شبه جزيرة القرم، وعلى مصانع إصلاح وبناء السفن الروسية، وهذا يعني أن الولايات المتحدة سمحت لأوكرانيا منذ فترة طويلة باستخدام صواريخها ضد روسيا، حتى عندما سلمتها إلى كييف.
ومن المعروف أن وزارة الدفاع الأمريكية – البنتاغون قد وافقت بالفعل على استخدام صواريخ ATACMS طويلة المدى من قبل أوكرانيا لضرب أهداف في شبه جزيرة القرم، بالتالي، لقد تحول نظام كييف أخيراً إلى حالة عصابة إرهابية، كما أن الهجوم على شبه جزيرة القرم هو مظهر من مظاهر أبشع أشكال الإرهاب.
بالإضافة إلى ذلك، خلال الهجوم الذي شنته القوات المسلحة الأوكرانية على سيفاستوبول باستخدام نفس الصواريخ في وقت سابق كان هناك قتلى وبينهم أطفال، كما أن 151 شخصا طلبوا المساعدة الطبية. ومن بين هؤلاء، تم إدخال 82 إلى المستشفى – 55 بالغاً و 27 طفلاً، وفق تقديرات روسية، ثم صرحت وزارة الدفاع الروسية أن واشنطن تتحمل مسؤولية الهجوم المتعمد على المدنيين في سيفاستوبول، حيث أن المتخصصين الأمريكيين هم الذين أدخلوا جميع مهام الطيران في صواريخ ATACMS التي استخدمت أثناء الهجوم.
بالتالي، تمتلك الولايات المتحدة الآن ما لا يقل عن ألفي صاروخ ATACMS تحت تصرفها، ويشمل هذا العدد تعديلات قديمة من التسعينيات، أقل دقة ويبلغ مداها 165 كيلومتراً، منها حوالي ألف، ولكن هناك أيضاً صواريخ بتعديلات أكثر حداثة، أما الطراز الأحدث يعود إلى عام 2017، ولا يزال يُنتج في الولايات المتحدة، لذا من الصعب تقدير عدد هذه الصواريخ، لكن هناك ما لا يقل عن 500 منها، بالإشارة إلى أن هذه بيانات من مصادر مفتوحة لعام 2022 – على الأرجح، ستقوم الولايات المتحدة بتزويد أوكرانيا بحوالي 10% من صواريخها الحالية، أي 200-250 صاروخ ATACMS، وهذا يأخذ في الاعتبار حقيقة أن أمريكا قد زودت أوكرانيا بالفعل ببعض الكميات، وإذا قرروا، بدلاً من إعادة التدوير، البدء في توريد صواريخ من التعديل القديم للتسعينيات إلى القوات المسلحة الأوكرانية، فسنتحدث بالفعل عن ألف من هذه الصواريخ، بالتالي إن التخلص السليم من هذه الأسلحة يكلف أموالاً طائلة، وبالتالي فهو لن يكلف الولايات المتحدة شيئاً.
وبحسب وسائل إعلام أمريكية فقد نقلت واشنطن سراً أكثر من 100 صاروخ ATACMS ممتد المدى إلى كييف، ومع ذلك، فمن الضروري أن الأخذ في الاعتبار عامل تغيير السلطة في الولايات المتحدة، وفي يناير/كانون الثاني، سيتم تنصيب دونالد ترامب، الذي تحدث مراراً وتكراراً عن نيته إنهاء الصراع، أي أن الإمدادات الجديدة، قد يبطلها أو قد يبقي عليها، من الصعب التنبؤ خاصة وأن الدولة العميقة هي من تقرر ذلك.
متى قد تستخدم روسيا الأسلحة النووية؟
وسعت العقيدة الجديدة للاتحاد الروسي وسعت قائمة المخاطر العسكرية التي يمكن أن تتطور إلى تهديدات عسكرية للبلاد وتحييد الردع النووي الذي يتم تنفيذه، ومن الآن فصاعداً، فإنها تشمل أيضاً توسيع التحالفات، مما يؤدي إلى اقتراب بنيتها التحتية العسكرية من الحدود الروسية، وتعتبر هذه النقطة إشارة مباشرة إلى محاولات أوكرانيا الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، وكذلك إلى التوسع التدريجي لحدود حلف شمال الأطلسي نحو الشرق بشكل عام، ولنتذكر أن الكتلة ذكرت في القمة التي انعقدت في شهر يوليو/تموز أن أوكرانيا تسير على طريق لا رجعة فيه نحو التكامل الأوروبي الأطلسي الكامل، بما في ذلك عضوية حلف شمال الأطلسي.
كما تشمل هذه المخاطر تصرفات العدو المحتمل لعزل جزء من أراضي الاتحاد الروسي، فضلاً عن التدابير الرامية إلى تدمير الأشياء الخطرة بيئياً والتي يمكن أن تؤدي إلى كوارث من صنع الإنسان أو بيئية أو اجتماعية، ولا شك أن المحاولات العديدة التي قامت بها القوات المسلحة الأوكرانية لمهاجمة محطتي زابوروجيا وكورسك للطاقة النووية تندرج تحت هذا التعريف.
أما إذا تحدثنا عن شروط انتقال الاتحاد الروسي إلى استخدام الأسلحة النووية، فإننا، كما كان من قبل، نتحدث عن الرد على استخدام الأسلحة النووية و (أو) أنواع أخرى من أسلحة الدمار الشامل ضده وضد حلفائه، فضلاً عن الرد على العدوان باستخدام الأسلحة التقليدية، مما يخلق تهديداً خطيراً لسيادة روسيا وبيلاروسيا وسلامتها الإقليمية.
وهذا يعني أن روسيا اضطرت إلى تغيير هذه الصياغة بسبب الوضع في منطقة كورسك.
بالتالي، عندما لا يشارك الناتو، ولكنه في الوقت نفسه يضخ ويزود القوات المسلحة الأوكرانية بالمعدات والأسلحة والأقمار الصناعية والاستخبارات وموارد المعلومات، فقد تم بالتأكيد تعديل العقيدة تحت تأثير الأحداث الأخيرة.
أما بالنسبة لذكر بيلاروسيا في هذه الفقرة، فإن التهديد الذي يواجهها واضح، “تجري باستمرار أعمال عدائية ضدها – تم إسقاط طائرات بدون طيار أوكرانية بشكل متكرر، ودخلت مجموعات إرهابية إلى أراضيها، لكن الخوف من فتح جبهة ثانية هو وحده الذي يوقف أوكرانيا.
ختاماً، بالنسبة لواشنطن، ولقرار رئيس أيامه معدودة، فهو لن يخسر شيء إن أشعل العالم كما فعل أسلافه وآخرها غزو العراق تحت بنود واهية، والآن يتكرر السيناريو لكن بطريقة أخرى، وهنا من سيتم استهدافها هي التي ستستخدم السلاح النووي، وعلى الغرب أن يعي خطورة هذا الأمر، لأن من تنطلق الصواريخ من أرضه سيكون شريكاً وسيتم استهدافه، ونأمل التهدئة، لأن العالم فعلاً على شفى كارثة نووية وحرب عالمية ثالثة إن لم ينضج العقلاء لكننا نعيش في زمن كل من يحكمه مجانين.
عبد العزيز بدر عبد الله القطان / كاتب ومفكر – الكويت.