الصراع بين الكيان الصهيوني وحزب الله يمثل أحد أعقد الملفات في الشرق الأوسط، حيث تتشابك الأبعاد الإقليمية والمحلية والدولية بشكل يجعل التوصل إلى تسوية دائمة أمراً بالغ الصعوبة، وتصاعد التوتر في الآونة الأخيرة جاء في ظل تصعيد عسكري متبادل ووساطات دولية نشطة، أبرزها مساعي المبعوث الأميركي عاموس هوكشتاين، الذي يهدف إلى تهدئة الأوضاع والتوصل إلى وقف إطلاق النار، ومع ذلك، تبدو فرص نجاح هذه المساعي محدودة في ظل رفض متوقع من حزب الله لشروط تُعتبر مواتية للجانب الصهيوني، فضلاً عن استمرار التصعيد على الأرض.
بالنسبة للتحركات الأميركية، بقيادة هوكشتاين، تأتي ضمن جهود تبدو الأكثر جدية منذ سنوات لإنهاء الصراع، لكن الشروط المطروحة، التي تتضمن انسحاب حزب الله من الحدود اللبنانية الفلسطينية ونشر الجيش اللبناني بدعم من قوات الأمم المتحدة، تواجه عقبات عدة، ليس أقلها تحفظات الحزب وبعض القوى اللبنانية على بنود تمنح الكيان الصهيوني هامشاً واسعاً لاستئناف العمليات العسكرية بشكل أحادي.
في المقابل، تسعى تل أبيب إلى استغلال هذا الضغط الدولي لتأمين حدودها الشمالية، في ظل استمرار النزوح الواسع للمستوطنين وتصعيدها العسكري الذي يهدف إلى إرغام حزب الله على قبول الاتفاق، ومع ذلك، فإن دعم إيران المستمر لحزب الله، بما في ذلك التزامها بإعادة بناء قدراته العسكرية بعد انتهاء الصراع، يعزز من موقف الحزب الرافض لأي تسوية قد تنال من نفوذه.
بالتالي، إن الوضع الداخلي في لبنان يزيد من تعقيد الصورة، حيث تجد الحكومة اللبنانية نفسها في موقف حرج بين الضغوط الدولية لتطبيق الاتفاق وبين الحاجة للحفاظ على توازن داخلي هش. يُضاف إلى ذلك الديناميكيات الإقليمية التي تشمل موقف إيران، وتغير الإدارات في الولايات المتحدة، والرهانات الإسرائيلية على مستقبل دعم واشنطن.
في ظل هذه التعقيدات، يبقى السؤال حول إمكانية تكرار سيناريو 2006 مع قرار مجلس الأمن 1701: هل سيُطبق بنفس الطريقة، أم أن المستجدات الإقليمية ستجعل تنفيذ أي اتفاق مختلفاً وأكثر هشاشة؟ يبدو أن احتمالات رفض حزب الله لهذه التسوية مرتفعة، خاصة إذا رآها تنطوي على تنازلات تمس بمكانته أو بأهدافه الاستراتيجية، مما يعني أن المنطقة قد تستمر في دوامة الصراع لفترة أطول.
فقد وصل نائب مساعد الرئيس الأميركي عاموس هوكشتاين إلى لبنان، والغرض من الزيارة هو مناقشة إمكانية وقف إطلاق النار واتفاق السلام، ومع ذلك، من المتوقع أن تكون نهاية الصراع بشروط مواتية للكيان الصهيوني وهذا مؤكد في ظل الانحياز الأمريكي ودعمها اللامحدود واللامشروط لكيان الاحتلال الصهيوني.
وقد وافقت بيروت وحزب الله على خطة السلام الأمريكية مع الكيان الصهيوني، وأبدتا “بعض التعليقات الإيجابية على مضمونها”، وأصبح من المعروف أن بيروت قد أرسلت ردها المكتوب إلى السفيرة الأميركية في لبنان ليزا جونسون، بالتالي، إن كل شيء الآن يعتمد على تل أبيب، كما أن الجهود التي بذلت هذه المرة لتحقيق وقف إطلاق النار بين الطرفين كانت الأكثر جدية على الإطلاق.
والآن يتعين على رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي أن يناقش هذه الخطة الخاصة باتفاقية وقف إطلاق النار مع المبعوث الأميركي الخاص عاموس هوكشتاين، وعلى وجه الخصوص، يمكننا الحديث عن تلك الجوانب من خطة السلام “التي قد تتعارض مع الدستور اللبناني”. ومع ذلك، لم يتم الإعلان بعد عما يعنيه هذا على وجه التحديد.
وتتألف مسودة الاتفاق من 13 نقطة وتنص على انسحاب تشكيلات حزب الله من الحدود مع فلسطين المحتلة وإرسال قوات من الجيش اللبناني النظامي إلى هناك، وستقوم قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) بمساعدتهم، بالإضافة إلى ذلك، من المخطط تشكيل لجنة مراقبة لمراقبة الوضع الحالي، لكن سلطات الحزب لم تتوصل بعد إلى اتفاقات واضحة مع الجهات الرسمية اللبنانية بشأن هذه الصفقة، إلا أن ممثلي الحركة ما زالوا مستعدين للانضمام إلى الاتفاق وفق ما يناسبهم وهذا قد يعطل الموضوع قبل أن يبصر النور.
وكما تابعنا أنه في الأسبوع الماضي، سلمت السفارة الأميركية في لبنان خطة اتفاق إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري، والذي يعمل كأحد الوسطاء بين بيروت وحزب الله.
وقد تسربت مقتطفات معينة من الاتفاق المستقبلي، والذي يشبه، على وجه الخصوص، التنفيذ الواسع النطاق لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701، وفي عام 2006، وفقاً لهذه الاتفاقيات، تمكن حزب الله وكيان الاحتلال الصهيوني من وقف الأعمال العسكرية.
كما يحتوي الاتفاق على مطلب واحد من تل أبيب، لا توافق عليه السلطات اللبنانية، يتعلق الأمر بمنح الكيان الصهيوني الحق في استئناف الأعمال العسكرية من جانب واحد إذا انتهك حزب الله الاتفاقات ولم يسحب قواته من الحدود اللبنانية الفلسطينية، وعليه هناك مخاوف جدية في لبنان من أن يمنح ذلك السلطات الصهيونية الحق في تنفيذ عملية عسكرية مفتوحة.
وبينما يجري الاتفاق على تفاصيل التسوية السلمية، لا تتوقف تل أبيب عن شن ضربات مستهدفة في عمق لبنان وقصف جنوب البلاد، وكان آخر تلك الجرائم وليس أخيرها، اغتيال المسؤول الإعلامي لحزب الله محمد عفيف في قصف على مقر راس حزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان يتواجد فيه، بالإضافة إلى ذلك، ولأول مرة منذ بدء العملية في جنوب لبنان، نشر الجيش الصهيوني مدفعية ثقيلة هناك قبل بضعة أيام، اعتقاداً منه أن ذلك سيجبر حزب الله على الموافقة على اتفاق سلام لأنه لم يعد يملك خيارات أخرى.
وكما أوردت صحيفة نيويورك تايمز نقلا عن مصادر في إيران، دعا المرشد الأعلى للبلاد علي خامنئي حزب الله التي تتعرض لضغوط من طهران، إلى إبرام اتفاق لوقف إطلاق النار مع الكيان الصهيوني وفي الوقت نفسه، أكدت السلطات الإيرانية للحزب أن دعم طهران الكامل للجماعة سيستمر، كما أعربت عن رغبتها في المساعدة في استعادة قدراتها العسكرية بعد انتهاء الصراع.
وهذا الأمر ربما يتعلق بحالة النزوح الكبيرة للمستوطنين وسط رغبة نتنياهو بإعادتهم إلى الشمال، ولأجل ذلك، ربما قد لا نجد تعنتاً صهيونياً في هذا الخصوص خاصة من جانب رئيس وزراء الكيان، بنيامين نتنياهو، وبشكل عام، سيكون من الممكن وقف أعمال العنف الجارية في جنوب لبنان، خاصة وأن الصهاينة أنفسهم كانوا يعتزمون أن تكون هذه العملية قصيرة الأمد، كما قالوا إنها ستستمر أياماً وليس أشهراً، ولكن الوضع يبدو أنه يستغرق وقتاً أطول بكثير، أما إذا تحدثنا عن الإعدادات الأساسية، فربما كان من المنطقي أن يكمل الصهاينة كل شيء، ويؤمنوا جبهتهم الشمالية، ويواصلوا التعامل مع قطاع غزة.
بالتالي، فإن الوضع معقد لأن بنيامين نتنياهو قد يكون أمام إغراء آخر، كما أن إدارة الرئيس الأميركي المنتهية ولايته جو بايدن أصبحت الآن بطة عرجاء، وحلت محلها إدارة دونالد ترامب، وموقفه من الكيان الصهيوني ونتنياهو معروف، ومثل هذا الوضع يطرح السؤال: هل لدى نتنياهو الرغبة مرة أخرى في إبطاء العملية لمجرد انتظار وصول ترامب إلى السلطة ومعرفة ما سيفعله؟ إن ترامب سيتخذ موقفاً مؤيداً للكيان الصهيوني ومعادياً لإيران بشكل علني.
لبنان هو نوع من الصورة المصغرة للشرق الأوسط، حيث يمكن ملاحظة تعميق المنطقة، وخطوط الصدع بين الكتل السنية والشيعية الأخيرة، بالتالي، إنهم قادرون على تمرير القرار 1701، ولكن هل سيتم تنفيذه بنفس الطريقة التي تم بها تنفيذه في عام 2006؟
القرار 1701: السياق القانوني وأبعاده وتوقعات نجاحه في 2024
صدر القرار 1701 عن مجلس الأمن الدولي في 11 أغسطس 2006 خلال الحرب الصهيونية اللبنانية التي اندلعت إثر عملية قام بها حزب الله تضمنت أسر جنود صهاينة، ما دفع الكيان الصهيوني إلى شن حملة عسكرية واسعة النطاق استهدفت لبنان وأدت إلى خسائر بشرية ومادية كبيرة، إلى جانب نزوح جماعي للسكان، جاء القرار لوقف الصراع العسكري الذي هدد استقرار المنطقة وأحدث أزمة إنسانية حادة، واعتمد بالإجماع تحت الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة، مما جعله توجيهياً وليس إلزامياً.
ويتضمن القرار بنوداً رئيسية تهدف إلى تحقيق تهدئة شاملة، منها وقف كامل للأعمال العسكرية، وانسحاب القوات الصهيونية من جنوب لبنان تدريجياً، ونشر الجيش اللبناني بالتعاون مع قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) لضمان عدم وجود قوات غير حكومية مسلحة في المنطقة، كما يشمل حظر توريد الأسلحة لأي جهة غير الدولة اللبنانية واحترام الحدود المعترف بها دولياً، مع التأكيد على سيادة لبنان واستقلاله السياسي.
وصدر القرار نتيجة لتصعيد عسكري خطير تسبب في أزمة إنسانية واسعة النطاق، إلى جانب مخاوف دولية من تأثير الصراع على استقرار المنطقة، وقد مثل القرار محاولة لاحتواء النزاع ضمن إطار يوازن بين دعم حلفاء الغرب للكيان الصهيوني ومطالب الدول العربية والإسلامية، مع تعزيز دور الأمم المتحدة كوسيط ومراقب في النزاع.
ورغم الجهود المبذولة، واجه القرار تحديات كبيرة في تنفيذه، فقد استمرت الخروقات المتبادلة بين حزب الله وكيان الاحتلال الصهيوني، حيث بقي التوتر قائماً في مناطق الحدود الجنوبية، ولم يتمكن الجيش اللبناني من بسط سيطرته الكاملة على المنطقة، في حين واصل حزب الله تعزيز قوته العسكرية، كما واجهت قوات اليونيفيل صعوبات في منع التصعيد بسبب محدودية صلاحياتها، ما أضعف قدرتها على فرض التهدئة.
أما في عام 2024، يواجه القرار 1701 تحديات معقدة قد تعيق نجاحه. التصعيد المستمر بين حزب الله وكيان الاحتلال الصهيوني يعكس استعداد الطرفين للصدام، بينما تزداد التعقيدات نتيجة الدعم الأميركي للكيان الصهيوني والدعم الإيراني لحزب الله، كما أن الأزمات الإقليمية، مثل النزاع الأوكراني والتوتر بين الولايات المتحدة وروسيا، تقلل من قدرة القوى الكبرى على تركيز جهودها لحل النزاع اللبناني.
بالنسبة للدور الأممي يظل محدوداً في ظل ضعف تفويض قوات اليونيفيل وعجزها عن التصدي للتوترات المتصاعدة، في حين أن الانقسام السياسي الداخلي في لبنان وصعوبة التوافق حول مسألة نزع سلاح حزب الله يزيد من تعقيد الوضع.
ورغم أن القرار 1701 يمثل إطاراً مهماً لخفض التصعيد، فإن الظروف الراهنة تشير إلى صعوبة تحقيق استقرار طويل الأمد، ونجاحه في 2024 يعتمد على وجود إرادة إقليمية ودولية جادة لتسوية النزاع وضغط دولي يمنع التصعيد، إلا أن الواقع الحالي، بما فيه تعاظم قوة حزب الله والدعم الصهيوني المستمر من الولايات المتحدة، يجعل تحقيق ذلك أمراً بعيد المنال.
ختاماً، يبدو أن النزاع بين حزب الله والكيان الصهيوني، والذي يرتكز على تعقيدات تاريخية وسياسية وعسكرية عميقة، لا يزال يشكل تحدياً كبيراً لاستقرار لبنان والمنطقة بأكملها، ورغم أن القرار 1701 مثل محاولة جادة لتحقيق تهدئة شاملة، إلا أن التغيرات الجيوسياسية والظروف الإقليمية المتوترة جعلت من تحقيق أهدافه بالكامل أمراً صعب المنال، وفي ظل التصعيد المستمر والمصالح المتضاربة للأطراف المحلية والدولية، يبدو أن أي اتفاق مستقبلي، بما في ذلك الجهود الحالية لتحقيق وقف إطلاق النار، سيواجه عقبات كبيرة، ومع ذلك، يبقى الأمل معقوداً على جهود دبلوماسية بناءة وإرادة دولية جادة لاحتواء النزاع، بما يخدم مصالح جميع الأطراف ويحقق الاستقرار المطلوب في منطقة مثقلة بالأزمات.
عبد العزيز بدر عبد الله القطان / كاتب ومفكر – الكويت.