ونحن نعيش أيام نوفمبر المجيدة، ونحتفي بمنجزات العيد الرابع والخمسين لنهضة عمان المتجددة التي يرعاها مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم؛ حفظه الله ورعاه نقول : بأن للجميع الحق في أن يحتفي ويحتفل، ويفخر ويفاخر، ويبتهج ويعبر عن فرحته بما تحقق على أرض عمان الغالية، وما يعيشه إنسان هذا الوطن من أمن وأمان واستقرار؛ غير أننا مطالبون بالوقوف على طريقة هذا التعبير وآلياته وأساليبه ووسائله، بالشكل الذي يعكس حقوق هذه النهضة، وما سطرته في سلوك العمانيين من مسارات الوعي والمهنية والرقي والذوق ، وبما يتلاءم مع جلال هذه المناسبة ومكانتها، ويعكس أخلاق العمانيين وسلوكهم، ويبرز الأثر الذي أصلّته النهضة في سلوك الشباب وممارساته وتوجهاته، بحيث تصبح تعبيراته وطريقتها وألياتها والحدود التي يضعها لنفسه، انعكاسا لما أسسته فيه في منابر القيم، ومعين الأخلاق، وبنته فيه من سمو الهدف والمثل العليا، والترفّع عن كل الممارسات التي تسيء إلى أخلاقياتها ومبادئها الحقة، أو تتجافى مع ما تحتاجه من حس المواطنة وقيمها وموجهاتها وأطرها وهويتها، وتعميق حضورها في الفكر والعاطفة، والسلوك والقناعات والرغبات، في ظل رابطة حميمية مع غايات الوطن وأهدافه، تضعه في موقع المسؤولية، وتصنع في ذاته شعورا صادقا للوفاء للمنجز الوطني، والالتزام بمبادئ الوطن وتشريعاته، والبحث في أرضيات نجاحاته وطموحه، لتتحول سلوك المواطنة من مجرد إعجابات وقتية هشة، تحمل طابع الاندفاع والتهور، والسطحية وسذاجة الأسلوب، والمزاجية والانبهار الوقتي، الذي لم يلامس شغاف القلب أو يتناغم مع ضمير الخلق، وما يرافقها من تعبيرات سلبية وممارسات لا اخلاقية ، او سلوكيات تتنافى وقيم الالتزام بمبدأ العمل من أجل عمان، والمنهج المتسامح المتسامي الذي تدعو إليه فلسفة المواطنة العمانية، وتبرز خلاله مواصفات الحب الراقي للوطن القائم على حفظ الحقوق، وتعزيز المبادرة والتنافسية ، والتزام الامانة والاخلاص في المسؤوليات، والممارسة الايجابية الهادفة، القائمة على مصداقية الهدف، وموضوعية المضمون، ووضوح فلسفة العمل، المنزّهة عن شوائب المصلحة، وأنانية الذاتية؛ باعتبارها مرتكزات تنطلق منه ممارسات الفرد وسلوكياته، وترسم طريق طموحاته القادمة ، بما يجعل من تعبيراته وطريقة احتفاله بالعيد الوطني ، متوافقة مع محددات المواطنة ، القائمة على الولاء والانتماء واحترام الذوق العام، وتقدير النظام، والمحافظة على الأمن، والبعد عن الممارسات الدنيئة التي تسيء إلى ثقافة الوطن، وأنموذج المواطن المسؤول، أو تتنافى مع التعليميات والتوجيهات الصادرة من الجهات المختصة، بإضافة ملصقات غير مسموح بها، أو التفحيط في الشوارع، أو المسيرات التي يصاحبها بعض التجاوزات المخلة بالنظام والأخلاق، والآداب العامة ، أو تعكس سطحية تفكير الممارس والتقليد السلبي، وتعريض حياة المواطنين والمقيمين للخطر، أو تجاوز الحق العام، او الاعتداء على الممتلكات، أو السهر المصحوب بالهرج والمرج ورفع الاصوات، لكونها تمثل إعجابا يفتقر لروح العطاء الراقي، ونور السلام الداخلي الواعي، وصدق الحب الذي يتجاوز شكليات الممارسة، إلى البحث في أعماق ومسوغات الانجاز والتأمل فيه، كقيمة مضافة لحياة الإنسان، تدفعه إلى العمل بلا توقف، والعطاء بلا حدود.
لقد مارس العمانيون المواطنة بكل صدق وهم يحتفلون بالعيد الوطني الرابع والخمسين المجيد ( عزم وإنجاز) فيما قدمه أبناء عمان منتسبي الأجهزة العسكرية والأمنية من عرض عسكري مهيب، وهم يحتفلون بحب الوطن والقائد المفدى حفظه الله ورعاه في ولائهم وانتمائهم وإنجازاتهم ومواطنتهم وهويتهم؛ غير أن طريقة تعبير البعض عن حب الوطن وتصرفاتهم التي تتجافى عن محمود الذوق ونُبل الخصال؛ ضرباً من السلبية التي لا تبني للوطن مجداً أو تُعير للإنسان كرامة أو تقيم للإنجاز وزناً، كونها مسألة وقتية تنتهي بانتهاء المناسبة، وتتلاشى فقاعاتها بمجرد انتهاء الحدث، وخرجت عن مسار المواطنة المعتدل بقصد أو دون قصد واتجهت إلى تعميق جانب الإعجاب الوقتي الذي يعبر عن اللحظة فقط ولا يستطيع الصمود لوقت أطول في ظل شعارات قد لا تتجاوز تمتمة الالسنة والحناجر أو تصرفات قد لا تتقبلها ذاكرة الوطن الحضارية الصافية التي لا ينبغي تعكير صفوها بممارسات تفقدها بريقها أو تُنسيها جماليتها وذوقها أو تُضعف صلابتها وقوتها، ويصبح الإعجاب في وجود هذه الممارسات المصحوبة بنزوة الظهور ونشوة التصفيق والتطبيل، التي هي أقرب إلى حالة السلبية والعجز عن الوفاء بحق الثامن عشر من نوفمبر المجيد، فحقيقة الوطن في روح الإيجابية واستدامة الإنجاز وقيمة التميز ونهضة الإرادة ووعي الممارسة وسُمو الخلق ونُبل التصرف، تتطلب المزيد من الصبر والتضحية وجودة الفعل والممارسة، إنها مرحلة التحول في حياة الوطن بكل تجلياته في عدالته ووعيه وحضارته ونهضته وتقدمه وتطوره وتميزه ونجاحاته، باعتباره حياة تنبض بالأمل مزدانة بالجد والعمل، يوجهها منهج العدل، ومبدأ الاعتدال، وتحكمها قيم الفضيلة والأخلاق والمساواة ، لذلك وجب التعاطي معها في إطار احترام كينونته كوطن، والالتزام بمبادئه وضوابطه في ظل إنسانيته التي وسعت أبناء عمان وبناتها وامتدت للتعبير عن انسانيتها في أصقاع العالم المختلفة، ما يؤكد أولوية الوقوف عند حقوقه والاستماع لأحكامه وفهم رؤيته في التطوير ومنهجه في البناء، فإن هذه المناسبات وغيرها إنما هي لصياغة فرص أكبر لبروز القدوات والنماذج، وإيجاد مناخات أوسع لنمو القدرات وتعميق روح المسؤولية من أجل وطن الإنسانية.
من هنا فإن رسالتي إليكم أبناء وطني ، يا شباب عمان ، وأنتم المدركون لذلك والحريصون عليه ،وثقتنا فيكم صدقا وعدلا لا تشوبها شائبة؛ أن الوطن يريد منكم احتفاءَا يعكس أخلاقكم العالية، ويتناغم مع ضمير مسؤولياتكم التي أثبتم بها الكفاءة، واستحققتم بها الثقة السامية، واحتفالات تعكس فيكم حس المواطنة وسمت الهوية ونبل الخلق، ومسارات الذوق ورقي الثقافة الوطنية، وتبقى الأعاد والمناسبات والأيام الوطنية محطات لالتقاط الأنفاس وتعظيم الروح الجمعية وترقية السلوك والوعي الوطني وتجديد الولاء والعرفان والحب لسلطان البلاد وتعظيم وعي الشباب العماني بدوره ومسؤولياته ، وما يمتلكه من ثقافة الاحترام والتقدير للمنجز، ويعكس حبه للوطن وجلالة السلطان، ويبرز أخلاقياته وقيمة ومبادئه ، ويرتبط بحرصه على ان تكون تعبيراته متوافقة مع نهج المواطنة، أما أولئك الذين يظنون أنهم بممارساتهم المبتذلة، وتجاوزهم للقانون والنظام، وسلوكهم الغوغائي في الطريق والأماكن العامة التي تستدعي تدخل الجهات الأمنية ، يحبون الوطن ويحتفون بمنجزاته، ويعيشون فرجته؛ فهم بعيدون كل البعد عن ذلك، والوطن لا يحتاج لمثل هذه الممارسات، التي تسئ لشموخه وتضر بمصالحة.
أخيرا تبقى مسؤوليتنا جمعيا في تبصير الشباب بمختلف الوسائل والأدوات واستثمار المنصات الاجتماعية والحوارات التواصلية والإعلامية والثقافية والتعليمية، بالطريقة السليمة في الاحتفال بالأوطان وأعيادها ، لتكون فرصة في التسويق لسلطنة عمان في الفضاء الإلكتروني الواسع، بما يغردون به أو ينقلونه للعالم من صور وفعاليات ووسائط وتعبيرات راقية حول طريقة احتفالهم بهذه المناسبة المجيدة، لتتعمق فيهم قيم المواطنة المنتجة، وتصحّح المفاهيم والعادات المغلوطة، وعندها يصبح احتفالنا بعيدنا الوطني المجيد مشاعر صادقة ومبادئ أصيلة وإيمان بالثوابت وتضحية من أجل الوطن وسلطانه، فنتجاوز بذلك حالة الاعجابات المجردة، والشعارات الجوفاء، والكلمات السطحية، والأصوات العالية التي تفتقر لمعين الحب، وقيم العمل، وضمير المسؤولية، وصدق الممارسة.
د. رجب بن علي العويسي