عندما يُصرُّ كبير القَتَلَة في الكيان السرطانيّ المجرم على تسويق مصطلح «التفاوض تحت النار» فهذا يضع المتلقي تلقائياً أمام تصوّر مُسْبَق وجاهز ومُعَلَّب يقول مضمونه: نتنياهو غير مستعجل لوقف الأعمال القتالية لأنّ الغلبة لجيشه الأكثر تجهيزاً بين جيوش العالم بوسائط القتل والإبادة والطاقة التدميريّة الشاملة، فضلاً عن مستوى التوحّش والإجرام الذي لم تشهد له البشريّة مثيلاً على امتداد تاريخها الطويل، وفوق هذا وذاك هو مطمئن إلى أنّ يد المجتمع الدولي مغلولة خوفاً من غضب النمرود الأميركي الأكثر إجراماً وعربدة واستهزاء بالبشرية جمعاء، فكل ما له علاقة بالقانون الدوليّ أو أعراف المجتمع الإنسانيّ تمّ الضرب به عرض الحائط، وميثاق المنظمة الدوليّة تمّ تمزيقه جهاراً أمام ممثلي جميع دول العالم ومن منبر المنظمة الدولية، ولم تثر تلك العربدة والبلطجة أي ردة فعل أميركية، بل لعلّ ما حدث كان بإيعاز من مفاصل صنع القرار في الدولة العميقة المتخوّفة من تراخي قبضتها على مصادرة إرادة الدول والشعوب في شتى أصقاع المعمورة، وهي تستثمر توحّش الكيان الوظيفيّ الذي ترعاه وتدعمه لتنفيذ أدوار كهذه. وهذا يفسّر البون الشاسع بين الأقوال والأفعال لدى المسؤولين الأميركيين الذين يتظاهرون بحرصهم على التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، وفي الوقت نفسه يؤكدون حق الكيان على الاستمرار بالقتل والتدمير الممنهج والإبادة الجماعيّة، وإطلاق يد النتن ياهو وقطعان المجرمين في جيش الاحتلال لفعل كلّ ما يريدون بلا خوف ولا تردّد، فواشنطن تضمن شلّ إرادة الكون ومنع أي مساءلة على جرائم الحرب، وجرائم الإبادة الجماعيّة والتطهير العرقي بلا حسيب ولا رقيب.
ما يؤكد الكلام السابق تكرار إطلالات نتنياهو وإعادة تأكيده على فرض مبدأ «التفاوض تحت النار» وليس هذا فحسب، بل وصل الأمر بمجرم العصر إلى إعلان شروطه المسبقة قبل أي وقف لإطلاق النار. ومن المهم هنا التوقف عند بعض النقاط الأساسية التي تجب الإشارة إليها، ومنها:
*التفاوض تحت النار لا يؤلم المقاومة في لبنان وبقية مكوّنات المجتمع اللبناني فقط، بل يفرض الأمر ذاته على الداخل الاستيطاني الإسرائيلي، ولعلّ ما اعترف إعلام العدو الإسرائيلي به بعد عصر يوم الاثنين 18/11/2024م خير شاهد على ذلك، بعد وصول صاروخ باليستي ثقيل وفق التوصيف الإسرائيلي إلى قلب تل أبيب وانفجاره في أحد أبنيتها مخلفاً خسائر ودماراً صوّرته عدسات المستوطنين أنفسهم، وتمّ تناقل مقاطع الفيديو عبر العديد من وسائل التواصل الاجتماعي، وقد اعترف قائد الشرطة في تل أبيب بفشل منظومتي القبة الحديديّة ومقلاع داؤود في منع وصول الصاروخ إلى هدفه داخل ما يسمّونه «تل أبيب الكبرى» وتناقلت وسائل الإعلام العبرية تصريح قائد الشرطة المتضمّن «إن عملية الاعتراض لم تكن ناجحة حيث أُصيب المبنى في تل أبيب بصاروخ ثقيل».
*إعلان نتنياهو عن شروط مسبقة عشية الموعد المقرّر لوصول المبعوث الأميركي هوكشتاين إلى لبنان ليس مجرد إعلان مسبق عن رفض الكيان لمضمون المسودة الأميركية التي قدّمت إلى الجانب اللبناني، وتمّ الحديث عن أنّ لبنان الرسمي والمقاوم سلم ردّه عليها، وإذ بنتنياهو يتباهى بنزعته الطاووسيّة، ويعلن شروطه المسبقة، وفي هذا رسالة ضمنية متفق عليها مع واشنطن لتسويق خطاب أنّ تل أبيب غير مهتمّة بالتوصل إلى اتفاق، ورئيس الوزراء الإسرائيلي عنيد ولا يصغي لأحد، وبالتالي على حزب الله والدولة اللبنانية التفكير ببدائل قابلة للتنفيذ. مع العلم أنّ التحليل الموضوعي والمنطقي المستند إلى كلّ جولات المبعوثين الأميركيين إلى المنطقة منذ سبعينيات القرن الماضي يؤكد أنّ أيّ مقترح أميركي لا يتمّ حمله إلى الأطراف ذات العلاقة في دول المنطقة إلا بعد أن يتمّ الاتفاق على كل كلمة في مضمونه مع حكام الكيان، لعلهم يحصلون عبر السياسة ما عجزوا عن تحقيقه في مسارح العمليات القتالية.
*تكرار تسريب الأخبار المتناقضة عن موعد وصول هوكشتاين، حيث تمّ تأكيدها مرة، ونفيها مرة أخرى. وهذا أحد تكتيكات التفاوض الصهيو أميركي، وهو يتكامل مع رفع السقوف من نتنياهو وبن غفير وسموتريتش وبقية المسؤولين الصهاينة، وكله عقيم لا ينجب.
*عندما يصبح وصول صواريخ حزب الله إلى قلب تل أبيب وإلى جنوبها بشكل شبه يومي، وعندما تتحوّل حيفا إلى نموذج آخر لكريات شمونة، وعندما تتضاعف عشرات الأضعاف أعداد المستوطنين الفارّين من أماكن إقامتهم تنفيذاً لإنذارات حزب الله، وعندما تتعطل دورة الحياة الطبيعية اليومية عن نصف الكيان الغاصب على الأقلّ، ويضطر مئات الآلاف للبقاء في الملاجئ لساعات طويلة وأكثر من مرة في اليوم الواحد، فهذا يعني أنّ مصطلح «التفاوض تحت النار» يحتاج إلى تصويب وتعديل ليصبح «التفاوض تحت النارين» أيّ من كلا الاتجاهين، وليس من اتجاه واحد.
*لا شك في أنّ الكيان الصهيوني متفوّق بالطاقة التدميرية بكلّ صنوفها وأنواعها وبخاصة المحرّم منها دولياً، ولا أحد ينكر الحجم الكبير للخسائر والدمار والخراب والآلام التي يلحقها الإجرام الإسرائيلي بلبنان وشعبه بجميع مكوناته، وفي الوقت نفسه لا يستطيع حكام تل أبيب وداعموهم وأنصارهم والسائرون في فلكهم الآسن أن ينكروا أنه لم يسبق لهذا الكيان منذ الإعلان عن قيامه أن أُرْغِمَ مئات الآلاف من مستوطنيه على التوجه إلى الملاجئ والغرف المحصنة بمن فيهم المقيمون في تل أبيب، ولا يستطيع أحد أن ينكر أنّ الجيش الذي تمّ إعداده وتجهيزه ليكون قادراً على هزيمة جيوش دول المنطقة ما يزال يتعثر عند حافة القرى والبلدات الحدودية في جنوب لبنان المقاوم، ومع كلّ محاولة للتوغل أكثر يرتفع عداد القتلى والمصابين والخسائر البشرية والمادية والتسليحية فيُرْغَم الجيش وتشكيلات النخبة فيه على الانسحاب من المناطق التي تمّ التوغل فيها بضعة كيلومترات، وكلما ازداد عمق التوغل تضاعفت أعداد القتلى والجرحى والدبابات المدمّرة، وكلما زاد التوحش في قصف القرى والبلدات اللبنانيّة الآمنة كان على المستوطنين في ما يُسمّى: «البطن الرخو الآمن» أن يعتادوا على قضاء أوقات أطول في الملاجئ والغرف المحصّنة، وأرغم مستوطنون جدد على ترك أماكنهم خوفاً من الموت، وهذا يعني أنّ إطالة وقت التفاوض تحت النارين يؤلم الكيان الصهيوني كما يؤلم المقاومة اللبنانية.
*النجاح في التوصل لوقف إطلاق النار في هذه الظروف المعقدة والمتشابكة يعني أن نتنياهو طلب من واشنطن تهيئة البيئة المطلوبة لوقف النار بعد أن أنهك جيش الاحتلال واستنفد بنك الأهداف أكثر من مرة بلا جدوى، وفي الوقت نفسه لتفادي المزيد من الانقسام الداخلي، وخشية تفاقم الأمور وأخذها منحنيات جديدة يفرضها وقع الأعمال القتالية في الميدان، وإلا فإنّ كلّ ما يتمّ تسويقه عن قرب التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار لا يعدو كونه مماطلة وتسويفاً لمنح جيش الاحتلال وآلة القتل الصهيو ـ أميركية فرصة إضافية أخرى لزيادة عداد القتل والتدمير والترويع، وعندها تكون السردية الأميركية بكليتها ليست أكثر من ذرّ للرماد في العيون، وتكتيكات تفاوضيّة تحاول واشنطن أن تستثمرَ فيها للتغطية على العجز الميدانيّ القائم على أرض الواقع، ومحاولة إظهار أنّ المقاومة هي التي ترفض وقف إطلاق النار. وهنا جاءت الصفعة التالية بقفاز دبلوماسي مشهود لصاحبه بالحنكة والخبرة والمهارة في كلّ الجولات السابقة، وقد نقل عن دولة الرئيس نبيه بري بعد تسلّم المسودة الأميركية ما عرف بنسبة 50% أي أنه بهذه النسبة أعاد الكرة مسبقاً للملعب الصهيو ــ أميركي، لأنّ هذا الأمر يبيح للبنان ومقاومته التحفظ حتى على 50% مما تضمّنته المسودة، وفي الوقت نفسه تكون رسالة لبنان الرسمي والمقاوم واضحة وموافقة على وقف إطلاق النار وليست ضدّه، فليتابع العالم وينظر بأمّ العين موقف تل أبيب ليتيقن من يعرقل وقف إطلاق النار.
خلاصة
إذا كان في إدارة بايدن من لا يزال لديهم بقية من عقل وحب للمصالح القومية الأميركية العليا فبإمكان أولئك أن يسارعوا لتبديل معالم الصورة الكريهة لإدارة بايدن في أيامها الأخيرة، وهم يستطيعون فعل الكثير وإيصال رسالة قوية للداخل الأميركي وللعالم بمضمون يقول: إنّ إدارة بايدن تعمل لاستبدال النفور العالمي من السياسة الأميركية بتمرّد إسرائيلي، ولا شك في أنّ التداعيات السلبية لتمرد كيان أقلّ بكثير من استعداء العالم، كما أنّ موقفاً حازماً اليوم بفرض وقف إطلاق رغم أنف نتنياهو يعيد لواشنطن الكثير من الهيبة والمصداقية التي فقدتها، وقد يساهم في إطالة زمن الخداع الاستراتيجي الأميركي سنوات أخرى إضافية، فهل هم فاعلون؟ أستبعد ذلك.
د. حسن أحمد حسن / باحث سوريّ متخصّص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجيّة