في مرحلة بناء عُمان المستقبل ونهضتها المُتجدِّدة بقيادة حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم حفظه الله ورعاه، حَظِيَ التَّعليم باهتمامِ جلالته ورعايته الكريمة له، فالتَّعليم في رؤية جلالته بوَّابة المستقبل، والطَّريق لصناعة التَّغيير الممنهج، وإنتاج الوعي وبناء الإنسان وتقدُّم الأوطان، ومسؤوليَّته تتجاوز حدود ممارسة مؤسَّساته، لتحلِّقَ في فضاءات الحياة المفتوحة، آخذةً بِيَدِ الإنسان إلى ما فيه خيره وسعادته، وأمْنُ وطنِه واستقراره، لذلك فإنَّ ما يحصل من تحوُّلات متسارعة في مختلف جوانب الحياة تضع التَّعليم أمام مسؤوليَّة مواكبتها، وإنتاج حلولٍ واقعيَّة في مواجهتها، وترقية سُلوك المُجتمع في التَّعاطي معها، بروحٍ مُتجدِّدة، وعقليَّة منفتحة، وثقافة رصينة، وفِكر متَّزن يتعايشُ الجميع تحت مظلَّته، ويعيش الجميع على نتاج إنجازاته. على أنَّ قراءة دَوْر التَّعليم في صناعة خيوط التَّوازنات المستقبليَّة في فِكر جلالة السُّلطان المُعظَّم، يضعنا أمام استحضار جملة من المرتكزات الَّتي أرادَ جلالته أن يكُونَ التَّعليم شاهدًا عَلَيْها، حاضرًا في كُلِّ محطَّاتها، ومن بَيْنِها الآتي:
- المهارات وتنويع المسارات التَّعليميَّة والمواءمة مع سُوق العمل.
جاءت التَّوجيهات السَّامية لجلالة السُّلطان المُعظَّم بـ«ضرورة الإسراع في اتِّخاذ الإجراءات اللَّازمة لتحليلِ الاحتياجات والمتطلَّبات الضروريَّة لتطبيقِ التَّعليم التِّقني والمهني في التَّعليم ما بعد الأساسي بما يتوافق مع متطلَّبات سُوق العمل واحتياجاته المستقبليَّة، وأهميَّة تَبنِّي منهجيَّة متكاملة لآليَّة تطبيق ذلك وتحديد الخبرات والموارد البَشَريَّة اللَّازمة في هذا الشَّأن»؛ مرحلة مفصليَّة في تنويع مسارات التَّعليم والتَّوسيع في خياراته المهنيَّة والتقنيَّة، وإنتاج المتعلِّم اقتصاديًّا، لضمانِ امتلاكِ مخرجاتِه للمهارات النَّاعمة الَّتي يتطلبها سُوق العمل، الأمْرُ الَّذي يؤكِّد الحاجةَ إلى دراسة وتحليل نوعيَّة التَّخصُّصات الَّتي تحتاجها المرحلة الحاليَّة والقادمة وتوجيهها لصالحِ المواءمة مع احتياجات سُوق العمل، ورصد مراحل تطوُّر سُوق العمل والاحتياجات الوطنيَّة المستقبليَّة من التَّخصُّصات آخذةً في الاعتبار التَّخصُّصات ذات القِيمة المُضافة في مجالات الابتكار والبحث العلمي وريادة الأعمال، وحضوره في إدارة وإنتاج وهيكلة المشاريع الَّتي تَقُومُ على الابتكار والذَّكاء الاصطناعي والتقنيَّات المتقدِّمة، الَّتي تُشكِّل الوَجْهَ الأبرز في الثَّورة الصِّناعيَّة الرَّابعة وإنتاج تخصُّصات أكثر مواءمة لِتَحقيقِ مستهدفات رؤية «عُمان 2040».. وعَلَيْه تضع التَّوجيهات السَّامية مسألة التَّنويع في مسارات التَّعليم ما بعد الأساسي، الخيار الاستراتيجي الأبرز الَّذي يُعِيدَ إنتاج واقع التَّعليم من جديد، لِيتناسبَ مع معطيات المرحلة، واقتصاد المعرفة، والتَّوَجُّهات الوطنيَّة نَحْوَ فلسفةِ التَّنويع الاقتصادي وبناء القدرة التَّنافسيَّة لعُمانَ في جذب الاستثماراتِ الخارجيَّة وتكوينِ مُجتمع صناعي يعتمد على نَفْسه ويدير حركة إنتاجه بذاته، بالاستفادة من تراكميَّة المخرجات وتنوُّع التَّخصُّصات، والميزة التَّنافسيَّة لعُمان لتصنعَ مِنْها قوَّة اقتصاديَّة، سواء الجغرافيَّة والسِّياسيَّة والأمنيَّة والطَّبيعيَّة والبيئيَّة والسِّياحيَّة الَّتي تنشطُ حركة التَّعليم نَحْوَ إنتاج التَّخصُّصات الفاعلة فيها، والوظائف المساهمة في إدارة وتنشيط حركة وأنشطة حركة الاقتصادات الواعدة، مِثل: كاقتصاد السِّياحة واللوجستيَّات والطَّاقة المُتجدِّدة، والاقتصاد الأخضر، واقتصاد الثَّقافة والسَّلام والأمن.
- التَّعليم وإنتاج المواطنة والهُوِيَّة والقِيَم العُمانيَّة ودراسة الظَّواهر الفكريَّة والاجتماعيَّة.
جاء في خِطاب جلالة السُّلطان المُعظَّم في الحادي عشر من يناير من عام 2022: «ونُهِيبُ بأبنائِنَا وبناتِنَا التَّمسُّكَ بالمبادئِ والقِيَم، الَّتي كانتْ وستظلُّ ركائزَ تاريخِنَا المَجيدِ، فَلْنَعْتزَّ بِهُوِيَّتِنَا وجَوْهَرِ شخصيَّتِنَا، ولِنَنْفَتِحْ على العالَمِ، في توازنٍ ووضوحٍ، ونَتَفَاعَلْ معه بإيجابيَّة، لا تُفْقِدُنا أصالتَنَا ولا تُنسينا هُوِيَّتَنَا»، نقطة تحوُّل في دَوْر التَّعليم في قراءة منظور القِيَم، واتِّخاذ الإجراءات الثَّابتة الَّتي تحافظ على القِيَم والأخلاق العُمانيَّة، وعكستْ لقاءات جلالة السُّلطان المُعظَّم مع شيوخ الولايات والمحافظات، وحديثه عن المنصَّات التَّواصُليَّة، حيث قال «إنَّ تربيةَ الأبناء لا تتمُّ عَبْرَ شبكات التَّواصُل الاجتماعي، بل هي جزء من أصْلِ المُجتمع العُماني»، وأنَّه «عِندَما يتشربُ أبناؤنا عاداتنا وتقاليدنا والتَّمسُّك بالأُسرة والمُجتمع يتحقَّق نجاح المُجتمع»، كما أنَّ «التقنيَّات الحديثة وُجدت لخدمة البَشَريَّة، لكنَّنا مع الأسف نستغلُّها بطريقةٍ سلبيَّة جدًّا، وقد أثَّرتْ على النَّشء، ليس في بلدِنا فحسب، ولكن في جميع أنحاء العالَم»، موَجِّهًا أبناء المُجتمع إلى المحافظة على «إرثنا وترابطنا الاجتماعي، وعلى تربية أبنائنا وبناتنا التَّربية الصَّالحة»؛ دعوة مُتجدِّدة للتَّعليم في تأصيلِ القِيَم العُمانيَّة وتجسيدها في حياة النَّشء وأخلاقه وإدماجها في مناهج التَّعليم وبرامجه. وانطلاقًا من دَوْر التَّعليم في الحفاظ على الهُوِيَّة العُمانيَّة بنَصِّ المادَّة (16) من النِّظام الأساسي للدَّولة الصَّادر بالمرسوم السُّلطاني (6/2021) والتَّوجيهات السَّامية لجلالة السُّلطان بـ»أهميَّة تلمُّس احتياجات المواطنين، ودراسة الظواهر السّلبيَّة ووضع الحلول المناسبة لها»، فإنَّها تضع مؤسَّسات التَّعليم المختلفة أمام مسؤوليَّة إدارة هذه الظَّواهر وتتبّعها والكشف عَنْها ودراستها وتحليلها وفَهْم الدَّوافع والأسباب الَّتي أسهَمتْ فيها وإيجاد الحلول المناسِبة لها. وعكس حديث جلالة السُّلطان المُعظَّم عن تربية الأبناء ومسؤوليَّة الأُسرة ودَوْر الوالدَيْن، وإشارته إلى أنَّ تربية الأبناء جزء أصيل من ثوابت المُجتمع العُماني فهي لا تتمُّ عَبْرَ المنصَّات الاجتماعيَّة والظَّواهر الصَّوتيَّة وحالة الإعجاب السّلبي والتَّقليد الأعمى لِمَا يَدُور في فلَكِ منصَّات التَّواصُل الاجتماعي، لِيضعَ اليوم في حديثه عن التَّعليم والمدرسة النّقاط على الحروف في تأكيد أهميَّة أن يحرصَ القائمون على التَّعليم على استدراك هذا الجانب والنَّظرة المتوازنة القائمة على حسِّ المسؤوليَّة نَحْوَ الطَّلبة في الصُّفوف الدراسيَّة كما هو الشُّعور ذاته نَحْوَ الأبناء في البَيْت.
- التَّعليم المُنتج وصناعة اقتصاديات المستقبل الواعدة
جاء تشخيص جلالة السُّلطان المُعظَّم لواقع التَّعليم في سلطنة عُمان مستشرفًا للتَّحوُّلات المستقبليَّة في مَسيرة البناء الوطني، لِيصنعَ من هذه الثَّوابت خيوطَ اتِّصال وترابط ممتدَّة نَحْوَ المستقبل لِتَمكينِ مخرجات التَّعليم من صناعة اقتصاد المرحلة وعَبْرَ إتقان المهارات النَّاعمة والمهارات الرَّقميَّة ومواءمتها مع سُوق العمل، وإدماجها في السِّياسات الاقتصاديَّة ومشروعات وبرامج التَّنويع الاقتصادي، لِضَمانِ تحقيقِ تحوُّلات إيجابيَّة تُتيح فرصًا أكبر لتقييمِ احتياجات سُوق العمل من الوظائف المهنيَّة والرياديَّة المُنتِجة. ودَوْر التَّعليم في صناعة المستقبل ومساهمته في اقتصاد المعرفة ودخوله في ميدان المنافسة، وأن يسلكَ في سياساته وخططه وبرامجه مسار القوَّة القائمة على توفير البيئة الدَّاعمة والمُحفِّزة للبحثِ العلمي والابتكار وريادة الأعمال، وصقل التَّجارب وإنتاج الخبرات والكفاءات، لذلك جاء في خِطاب جلالته ـ أعزَّه الله ـ «إنَّنا إذ نُدرك أهميَّة قِطاع المؤسَّسات الصَّغيرة والمُتوَسِّطة، وقِطاع ريادة الأعمال، لا سِيَّما المشاريع الَّتي تَقُومُ على الابتكار والذَّكاء الاصطناعي والتقنيَّات المتقدمة، وتدريب الشَّباب وتمكينهم؛ للاستفادة من الفرص الَّتي يُتيحها هذا القِطاعُ الحيوي وما يَعنيه ذلك من مساهمة التَّعليم في رسمِ ملامح الاقتصاد وعَبْرَ الشَّركات الطلابيَّة والشَّركات النَّاشئة وتعظيم البحث العلمي والابتكار وتَوجيه التَّعليم في هذا المسار من شأنه أن يصنعَ القدرات الوطنيَّة المؤهَّلة، ويفتحَ المجال للبرامج التَّأهيليَّة والتَّدريبيَّة في التَّخصُّصات ذات القِيمة المُضافة والَّتي تُوَجَّه نَحْوَ القِطاعات الواعدة كالطَّاقة المُتجدِّدة والنَّظيفة والهيدروجين الأخضر وغيره. أخيرًا، فإنَّ الزِّيارة الكريمة السَّامية لمولانا حضرة صاحب الجلالة السُّلطان المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ إلى مدرسة السُّلطان فيصل بن تركي للبنين بولايةِ العامرات بمحافظة مسقط في الخامس والعشرين من نوفمبر واحتفالات سلطنة عُمان بعيدِها الوطني الرَّابع والخمسين المَجيد للاطِّلاع على سَير العمليَّة التَّربويَّة والتَّعليميَّة والبرامج الحديثة المُطبَّقة، تأتي في إطار الاهتمام السَّامي بالتَّعليم ومتابعته للشَّأن التَّعليمي واستشعارًا لِدَوْر المدارس والهيئات التَّعليميَّة بها في تأصيل هذا النَّهج، ودَوْر المدارس في تعزيز المواطنة والهُوِيَّة وتربية الطَّلبة على السَّمْتِ العُماني الأصيل والقِيَم الحضاريَّة والإنسانيَّة، فإنَّ عاطرَ التَّوجيه الأبوَي لجلالته ـ أعزَّه الله ـ في قوله: «نتمنَّى لكُلِّ القائمين على مدارسنا أن يضعوا دائمًا نصبَ أعْيُنهم بأنَّ طلبتَنا هُمْ أبناؤنا، فالطَّالب في الصَّف كالابنِ في البَيْت، وأنَّ ما نُحبُّه لأبنائنا يَجِبُ أن نُحبَّه لأبنائنا في الصُّفوف وبناتنا كذلك»، وبالتَّالي ما يحمله التَّوجيه السَّامي من مسؤوليَّة المدرسة والمُعلِّمين في الوقوف على متطلَّبات الأبناء ومساعدتهم في الوصول إلى تعلُّمٍ نشطٍ والأخذ بأيديهم لكُلِّ ما يُعزِّز من قدراتهم ويَبني أخلاقهم ويؤسِّس فيهم المسؤوليَّة والحسَّ الوطني، ويدعم النَّماذج الإيجابيَّة من القيادات الطلابيَّة وإخراجها بالشَّكل المطلوب داخل مُجتمع المدرسة.
د.رجب بن علي العويسي