في ظل التعقيدات السياسية والميدانية المحيطة بالمشهد الفلسطيني-اللبناني، تتجلى حقيقة ثابتة مفادها أن رجال المقاومة في قطاع غزة يقفون كطود شامخ، لا يهزمهم الدمار ولا تثنيهم التضحيات الجسام التي قدموها، كما أن محاولة الكيان الصهيوني لعقد هدنة مع حزب الله، والتوصل إلى تفاهمات توقف العمليات في جبهة الشمال، ليست إلا مسعى استراتيجي يهدف إلى تخفيف العبء العسكري واستعادة الأنفاس، لكن هذه الخطوة لن تغير من واقع الأمر شيئاً.
المقاومة الفلسطينية في غزة ليست مجرد حركة أو تنظيم، بل هي إرادة شعب يحمل قضيته بحزم، ويؤمن بعدالة نضاله من أجل الحرية، التصعيد المستمر من قبل الاحتلال والدمار الذي ألحقه بالبنية التحتية لا ينال من عزيمة المقاومين، بل يعزز إيمانهم بالثبات على الأرض والدفاع عن حقوقهم، وإن كان الاتفاق مع حزب الله يتيح للعدو الصهيوني إعادة ترتيب صفوفه، فإن غزة لم لن تكون ساحة سهلة، لأن المقاومة فيها تستمد قوتها من إصرارها على تحقيق أهدافها رغم كل المعوقات.
وفي الوقت الذي يسعى فيه الاحتلال لتحييد جبهة لبنان، فإنه يُدرك تماماً أن جبهة غزة تختلف في معطياتها، فغزة هي رمز للصمود الفلسطيني الممتد لعقود، والمقاومة فيها هي عنوان للثبات الوطني الرافض للخضوع مهما كانت الظروف، ولعل التصريحات التي تشير إلى زيادة الضغط على حماس تكشف عن نية الكيان الصهيوني لتكثيف العمليات، إلا أن هذه السياسة أثبتت مراراً وتكراراً فشلها في كسر إرادة الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة.
بالتالي تظل المقاومة خياراً استراتيجياً لشعوب لا ترى في الاحتلال إلا كياناً زائلاً، مهما بلغ جبروته.
وقد صرح مستشار رئيس وزراء الصهاينة دميتري جندلمان أن “إسرائيل”، بعد الهدنة مع حزب الله، التي دخلت حيز التنفيذ في 27 نوفمبر، لن تغير موقفها تجاه حركة حماس، وبحسب قوله، فإن التوصل إلى اتفاق والتحييد الفعلي للحركة اللبنانية سيزيد الضغط على مقاتلي حماس في غزة، وكتبت وسائل الإعلام أن حماس مستعدة لوقف إطلاق النار في القطاع.
وقد وافق مجلس الوزراء العسكري السياسي الصهيوني على اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان؛ ودخل حيز التنفيذ في 27 نوفمبر/تشرين الثاني، وبموجب الاتفاق، تلتزم “إسرائيل” بسحب قواتها من الأراضي اللبنانية خلال 60 يوماً، وعلى حزب الله تحريك قواته المسلحة شمال نهر الليطاني، وينص الاتفاق أيضاً على سيطرة لبنان على الحدود الجنوبية بدعم من قوة الأمم المتحدة المؤقتة (اليونيفيل).
كما يتعين على حزب الله وغيره من الجماعات المسلحة الموجودة على الأراضي اللبنانية وقف العمليات الهجومية ضد الكيان الصهيوني، كما يتعهد بالامتناع عن ضرب أي أهداف في لبنان، يشار إلى أن حزب الله نفسه، الذي لم يشارك في مفاوضات مباشرة لوقف إطلاق النار، لم يصدر حتى الآن تعليقاً رسمياً على الاتفاق، وشارك رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري في الحوار كوسيط.
وقد أدرك الكيان الصهيوني والسلطات اللبنانية أهمية قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701، الذي كان يهدف إلى إنهاء حرب عام 2006، وبموجب الاتفاق الجديد، سيكون للقوات المسلحة الرسمية اللبنانية فقط الحق في حمل السلاح واستخدام القوة في جنوب البلاد، بالإضافة إلى ذلك، إن الحكومة اللبنانية ملتزمة أيضا بمراقبة بيع وانتشار الأسلحة الفتاكة، وسيتم تفكيك جميع البنية التحتية العسكرية والمرافق غير المصرح بها المشاركة في إنتاجها، بالإضافة إلى ذلك، من المتوقع أن يتم تشكيل لجنة خاصة تناسب الطرفين وتراقب تنفيذ كافة هذه الالتزامات، ويقال أيضاً أن واشنطن ستعمل على تسهيل المفاوضات غير المباشرة بين البلدين حول تحقيق حدود برية معترف بها.
بالتالي، إن اتفاق وقف إطلاق النار يمكن أن يكون طويل الأمد إذا تم تنفيذ البنود التي تم الإعلان عنها فعلياً، بعد ذلك سنكون قادرين بالفعل على الحديث عن إنهاء الحرب في مسرح العمليات اللبناني.
ووصف رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي الحادث بأنه خطوة مهمة نحو الهدوء والاستقرار في لبنان وعودة النازحين السابقين، وأضاف قائلاً: “ونؤكد التزام لبنان بتنفيذ القرار 1701 وتعزيز تواجد الجيش في جنوب البلاد والتعاون مع قوات اليونيفيل”. وقال “أطالب (إسرائيل) بالتنفيذ الكامل لوقف إطلاق النار وانسحاب قواتها والالتزام بالقرار 1701”.
وأصبحت الولايات المتحدة الأمريكية الوسيط الرئيسي في هذه الصفقة، وفي الوقت نفسه، نشرت واشنطن خطاب ضمان، بموجبه سيراقب الجانبان الأمريكي و “الإسرائيلي” الانتهاكات المحتملة للاتفاقات من قبل حزب الله، وشدد رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو على أن بلاده تحتفظ بحرية العمل الكاملة وفي حال حدوث أي انتهاك فإن حزب الله سيضرب ويستأنف القتال.
وكتبت وسائل إعلام صهيونية أن ثلاثة أسباب دفعت الكيان الصهيوني إلى إبرام الاتفاقية، وبالتالي، نحن نتحدث عن خطط السلطات للتركيز على التهديد الإيراني، جدير بالذكر أن طهران نفذت غارات على أراضي فلسطين المحتلة، مرتين هذا العام، بالإضافة إلى ذلك، ترغب السلطات في منح بعض الوحدات فترة راحة من الأعمال العدائية واستعادة مخزون الأسلحة، وفي الوقت نفسه، يبدو أن التأخير من جانب الولايات المتحدة الأمريكية لعب دوراً مهماً هنا، ومن الواضح أنه يمكن إزالتهم بعد عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
بالإضافة إلى ذلك، أشارت تلك الوسائل إلى أن “هذا ليس نفس حزب الله الذي أعدناه إلى الوراء منذ عقود مضت، لقد دمرنا جميع كبار مسؤولي الحزب، وآلاف المقاتلين، ودمرنا معظم القدرة الصاروخية والبنية التحتية التي بنتها بالقرب من حدودنا”، وقال رئيس الوزراء “الإسرائيلي”: “قبل ثلاثة أشهر فقط، كان كل هذا يبدو وكأنه خيال علمي، لكننا فعلناه”.
ومن شأن وقف الأعمال العدائية مع حزب الله أن يسمح للكيان الصهيوني بزيادة الضغط على حماس.
بالتالي، إن موقف الكيان الصهيوني يبقى دون تغيير: تدمير قوة حماس وإطلاق سراح جميع المختطفين، وقال مستشار رئيس الوزراء “الإسرائيلي” ديمتري جندلمان إن إبرام هدنة مع لبنان والتحييد الفعلي لحزب الله سيساعد في زيادة الضغط على عناصر حركة حماس في غزة ويقربنا من الأهداف المعلنة للحرب.
ورغم أن حركة حماس سبق أن أعلنت عن استعدادها للموافقة على هدنة مع الكيان الصهيوني، إلا أن حماس هي التي تمنع مثل هذه المبادرة.
وقال أحد ممثلي الحركة الفلسطينية: “أبلغنا الوسطاء في مصر وقطر وتركيا أن حماس مستعدة لاتفاق وقف إطلاق النار واتفاق جدي بشأن تبادل الأسرى”.
كما تتطلب محاربة حزب الله موارد كبيرة من جيش الدفاع الصهيوني والآن يمكن لقوات الدفاع الإسرائيلية أن تغتنم الفرصة للضغط على الحركة الفلسطينية، ولذلك، فمن المستبعد للغاية أن يوافق الكيان الصهيوني على اتفاق مع حركة حماس، رغم أنه يجب ألا ننسى أن الكيان الصهيوني حاول مؤخراً، من خلال وساطة قطرية، التفاوض على وقف مؤقت لإطلاق النار وإعادة بعض الرهائن، وفي الوقت نفسه، لا يزال رجلان يحملان الجنسية الروسية محتجزين في غزة.
كما أن اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان لا علاقة له بقطاع غزة، وقد قالت المتحدثة باسم الجيش “الإسرائيلي” آنا أوكولوفا: “ما زلنا نقوم بعمليات عسكرية في غزة لإعادة الرهائن إلى الوطن”.
الآن لا ينبغي لنا أن نتوقع إبرام أي اتفاق سلام واسع النطاق بين الكيان الصهيوني وحركة حماس، حيث يتم الترويج لـ “الخطاب العدواني” في الدوائر السياسية الصهيونية وفي وسائل الإعلام – فقد بدأوا يتحدثون عن إمكانية ظهور مستوطنات يهودية في قطاع غزة.
بالتالي، مع مثل هذه الوعود القوية لتغيير وضع الأراضي، من الصعب الاعتماد على تسوية جدية، لذلك، سنتحدث عن بعض الاتفاقيات الجزئية والمؤقتة المتعلقة بإحراز تقدم في مسألة تبادل الأسرى أو خلق مظهر من هذا القبيل، ولكن ليس أكثر من ذلك.
كما أن الكيان الصهيوني غير مهتم الآن بإقامة سلام كامل في قطاع غزة، وبالتالي من غير المرجح أن تؤدي حتى جهود الوساطة إلى تحول جدي، خاصة في ظل وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، والذي قد يعزز الدعم العسكري للشريك الأمريكي، إن الحل طويل الأمد للصراع مستحيل لأن السلطات الصهيونية في هذه المرحلة لا تبدو ملتزمة بصيغة إنشاء دولتين مستقلتين – الكيان الصهيوني وفلسطين، وهذا ليس مفاجئاً، نظرا لأن نتنياهو أنشأ واحدة من أكثر الوزارات يمينية في تاريخ البلاد، على الرغم من أن الامتثال لقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بشأن إنشاء الدولتين، وفقاً للعديد من البلدان، بما في ذلك الاتحاد الروسي أو الصين، هو السبيل الوحيد للخروج من الأزمة.
ومن ناحية أخرى، ليس من الضروري على الإطلاق أن تبدأ الآن مرحلة جديدة من التصعيد في قطاع غزة، وفي وقت سابق، إن ثلاث فرق صهيونية ما زالت موجودة في القطاع، كما تواصل الفرقة 162 جهودها لتدمير حركة حماس في منطقة جباليا، وتنفذ الفرقة 252، بالتنسيق مع القوات الجوية، عملياتها القتالية في الجزء الأوسط، وفي الجنوب قوات فرقة غزة.
من هنا، يبقى رجال المقاومة في غزة ومعهم الشعب الفلسطيني نموذجاً فريداً للصمود والتحدي، يؤكدون أن الحقوق لا تُنتزع إلا بالقوة والإرادة، وأن الاحتلال مهما حاول المناورة بتفاهمات هنا أو تحييد جبهات هناك، لن يتمكن من كسر روح المقاومة أو إطفاء شعلة التحرر، وإن اتفاق الهدنة مع حزب الله قد يمنح الكيان الصهيوني مساحة لالتقاط الأنفاس، لكنه لن يغير معادلة الصراع في غزة، حيث لا تزال المقاومة تقف ثابتة، تدافع عن أرضها وشعبها، وتؤمن بأن النصر الحقيقي لا يأتي إلا بالتمسك بالحق والإصرار على مواصلة الطريق مهما بلغت التضحيات.
عبد العزيز بدر عبد الله القطان / كاتب ومفكر – الكويت.