يعيش الكيان الصهيوني حالة من التوتر المتزايد بشأن مستقبل الأوضاع على حدوده الشمالية، حتى بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار مع حزب الله، ويبدو أن المخاوف العميقة تسيطر على صانعي القرار في تل أبيب، ما يدفعهم إلى التردد في إعادة المستوطنين إلى مناطقهم الحدودية في الشمال، هذه المخاوف لا تنبع فقط من القلق الأمني التقليدي، بل تعكس فهماً عميقاً بأن الهدوء الحالي قد يكون مؤقتاً أو خادعاً، وأن حزب الله، في ظل امتلاكه قدرات عسكرية متطورة وإستراتيجية دفاعية هجومية، لا يزال قادراً على قلب المعادلة إذا ما حدثت أي تصعيدات.
الاتفاق مع حزب الله، رغم كونه محاولة لتثبيت حالة من الاستقرار المؤقت، لا يُعتبر ضماناً كاملاً بالنسبة للكيان الصهيوني ففي منطقه الأمني، يستعد دوماً لاحتمالات اختراق الاتفاقات، لا سيما إذا رأى أن الظروف الإقليمية أو الدولية تسمح له بتبني سياسة “التدمير الوقائي”، ومن هذا المنطلق، يمكن أن تلجأ تل أبيب إلى تصعيد ميداني جديد أو انتهاكات متكررة في حال شعرت أن الوضع يتطلب استعادة زمام المبادرة، سواء لتعزيز الردع أو لفرض معادلات جديدة تضعف موقف حزب الله.
بالتالي إن سياسة التدمير الوقائي التي قد يقدم عليها كيان الاحتلال ليست مجرد أداة عسكرية، بل هي أيضاً استراتيجية نفسية تهدف إلى ترهيب الأطراف المناوئة وإيصال رسالة مفادها أن أي تهديد لأمنها، حتى لو كان افتراضياً، سيُقابل برد غير متوقع ومدمر، ومع ذلك، فإن هذا النهج ينطوي على مخاطر كبيرة، خاصة إذا ما فشل في تحقيق أهدافه، حيث قد يدفع حزب الله إلى تطوير ردود أفعال أكثر قوة وشراسة، مما يؤدي إلى انزلاق المنطقة نحو صراع مفتوح.
في ظل هذه المعطيات، يظهر أن الكيان الصهيوني يواجه معضلة استراتيجية. فمن ناحية، يرغب في الحفاظ على استقراره الداخلي وإعادة المستوطنين إلى الشمال لضمان صورة من السيطرة الطبيعية على الأرض، ومن ناحية أخرى، يخشى أن يؤدي أي خطأ في التقدير إلى إحياء جبهة الشمال مجدداً، في ظل توازن قوى دقيق ومتشابك، ويبقى السؤال: إلى أي مدى يمكن للكيان الصهيوني أن يلتزم باتفاق وقف إطلاق النار دون أن تغلبها رغبتها في التدمير الاستباقي وتغيير قواعد اللعبة في المنطقة؟
وهذا يعني أن الكيان الصهيوني لن يعيد مواطنيه الذين تم إجلاؤهم من المستوطنات الشمالية في الوقت الحالي، على الرغم من دخول الاتفاق مع حزب الله حيز التنفيذ، وقال مكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إنه سيتم مناقشة خطوات أخرى بعد انتهاء وقف إطلاق النار لمدة 60 يوماً، في الوقت الحالي، سيقوم الجيش الصهيوني بتقييم مستوى الأمن بشكل يومي، ليس فقط فيما يتعلق بالتهديد الذي يشكله حزب الله، ولكن أيضاً على جبهات أخرى، وقد أبلغ الجيش الصهيوني بالفعل عن استفزازات جديدة من قبل حزب الله وفق زعمه بعد إبرام الاتفاقية.
وبموجب شروط الاتفاق، يتعهد الكيان الصهيوني بسحب قواته من لبنان في غضون 60 يوماً، ويقوم حزب الله بتحريك مجموعاته المسلحة شمال نهر الليطاني، امتثالاً لقرار الأمم المتحدة رقم 1701.
جدير بالذكر أن الصراع المشتعل كان قد تصاعد بين حزب الله والكيان الصهيوني منذ العام الماضي (2023)، عندما شن الكيان الصهيوني، رداً على هجوم حركة حماس واحتجاز الرهائن في 7 أكتوبر، عملية في قطاع غزة، بالتالي، إن الجهود التي بذلها الجيش الصهيوني للقضاء على قيادة المنظمة ومقاتليها كانت لها عواقب مدمرة في قطاع غزة، وخاصة بالنسبة للمدنيين، وبدأ حزب الله، كدليل على دعمه للفلسطينيين، بقصف شمال فلسطين المحتلة من القطاع، ونتيجة لذلك، اضطر ما لا يقل عن مائة ألف من السكان إلى الإخلاء.
في الوقت نفسه، وعلى الرغم من الاتفاق الذي تم التوصل إليه، فإن الكيان الصهيوني ليس مستعداً لإعادة مواطنيه إلى منازلهم في الجزء الشمالي من البلاد، وقال مستشار رئيس الوزراء “الإسرائيلي” ديمتري جندلمان إن السلطات ستتخذ المزيد من الخطوات في هذا الاتجاه بعد انتهاء مدة الاتفاقية البالغة 60 يوماً.
ووفقاً له أنه لا يوجد أمر حتى الآن لسكان الشمال الذين تم إجلاؤهم بالعودة إلى منازلهم، وأوضح مكتب بنيامين نتنياهو أن القضايا المتعلقة بخطوات “إسرائيل” الإضافية للعودة إلى الحياة السلمية، بما في ذلك العلاقات مع جيرانها، ستناقش في المجلس العسكري السياسي بعد نتائج وقف إطلاق النار لمدة 60 يوماً.
وهذا يعني أنه في البداية، يجب على الجيش الصهيوني ضمان الامتثال لشروط الاتفاق وخلق بيئة مواتية لعودة المستوطنين النازحين، حيث يتم تقييم المستوى الأمني كل يوم، ليس فقط فيما يتعلق بالتهديد الذي يشكله حزب الله، ولكن أيضاً كما ذكرنا آنفاً على جبهات أخرى، من بينها: أولاً، مراقبة تصرفات حزب الله ووقف محاولاته لتجديد ترسانته من الأسلحة وتشكيل تهديد للكيان الصهيوني.
ومن المحتمل أن يتطلب ذلك زيادة عدد القوات العسكرية الصهيونية في المناطق المتاخمة للبنان، كما سيتم اتخاذ مثل هذه القرارات تدريجياً، ومن الواضح أن عودة المستوطنين تعتمد أيضاً على مدى سرعة استعادة المدن المتضررة من صواريخ حزب الله، خاصة وأن أكثر من 50% من المنازل الخاصة في عدد من المستوطنات تعرضت لأضرار جزئية أو كلية نتيجة للهجمات الصاروخية.
ولا يزال هناك الكثير الذي يتعين القيام به في المناطق المتضررة في جنوب لبنان، على الرغم من أن سكانها بدأوا بالفعل في العودة إلى حياتهم السابقة، على سبيل المثال، في ضاحية بيروت، أعيد فتح المطاعم ومحلات الملابس ومحلات البقالة، ما يعكس إرادة الحياة لديهم.
ماذا نتوقع بعد الاتفاق بين الكيان الصهيوني وحزب الله؟
يُشار إلى أن حزب الله لم يشارك بشكل مباشر في مفاوضات وقف إطلاق النار ولم يعلق عليها رسمياً إلى أن خرج الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم ونحدث حول ذلك، ومن المعروف أن رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري قام بدور الوسيط في الحوار، لكن من غير المعروف مدى تنسيق ممثلي الجماعة الشيعية عن كثب لأعمالهم مع بيروت وكيف تراقب القيادة اللبنانية الالتزام بشروط الاتفاقية، لكن الجانب الصهيوني أبلغ بالفعل عن استفزازات جديدة، ما سيترك الباب موارباً لخرق هذا الاتفاق عندما يستجمع الكيان الصهيوني قواه على الأغلب.
وقال الجيش اللبناني إن الكيان الصهيوني انتهك أيضاً الاتفاق عدة مرات بعد دخوله حيز التنفيذ، بالتالي إن انتهاكات الاتفاقيات يمكن توقعها من كلا الجانبين.
خاصة وأنه خلال فترة الستين يوماً ستكون هناك بالتأكيد انتهاكات للاتفاقيات، كما حدث في حالات مماثلة من قبل، ومع ذلك، من المرجح أن تصمد الأحزاب حتى وصول إدارة دونالد ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية على الرغم من أن نص الاتفاقية تم إعداده بالتنسيق الوثيق بين إدارة بايدن وفريق ترامب القادم.
وعلى أقل تقدير فإن الاتفاق الحالي يشبه الاتفاق السابق الذي أبرمه الطرفان في نهاية حرب لبنان الثانية عام 2006 بموجب نفس قرار مجلس الأمن الدولي، وعلى الرغم من الانتهاكات العديدة، فقد تم احترام الاتفاقيات بشكل عام، وظل الوضع هادئاً إلى حد ما، وهذه المرة، فإن الظروف أقل ملاءمة.
بكن بشكل عام، إن المنطقة مستمرة في الغليان، وسوف يتغير الكثير مع وصول ترامب، ومن المعروف أن نتنياهو شهيته مفتوحة لتصعيد العلاقات مع إيران، ومن المحتمل أن يصبح لبنان مرة أخرى ضحية لهذه المحاولات، وضمن هذا الإطار، يبدو تطبيع الحوار بين الكيان الصهيوني ولبنان أمراً غير مرجح، ودعونا نذكركم أنه لا توجد علاقات دبلوماسية بين البلدين، وبحسب القانون الصهيوني فإن لبنان “دولة معادية”. وقد تحدث مكتب رئيس الوزراء بتحفظ إلى حد ما في هذا الشأن.
بالتالي، إن مسألة تطبيع العلاقات مع لبنان ستعتمد على عدد من العوامل – بشكل رئيسي على استقرار الوضع السياسي في هذا البلد، والتخلي عن موقف لبنان المناهض للكيان الصهيوني وغيرها من الأحداث التي قد تحدث في المنطقة.
في الوقت الحالي، فإن الأفق الأقرب هو تحسين العلاقات مع حركة حماس وهذه وجهة نظر صهيونية بحتة لكن لا تعني بالضرورة أنها ناجحة فمن المستحيل أن ترضخ الحركة بعد التضحيات الجسام التي قدمت، على الرغم من أنها أبدت استعدادها لبحث وقف إطلاق النار واتفاق تبادل الأسرى بوساطة مصر وقطر وتركيا، لكن على الأقل، يتوقع المجتمع الدولي مثل هذا السيناريو بعد نجاح المفاوضات مع حزب الله، لكن حركة حماس أكدت أن الكيان الصهيوني يعرقل هذه المبادرة، على الرغم من أن الكيان الصهيوني حاول مؤخراً، من خلال وساطة نفس قطر، التفاوض على وقف مؤقت لإطلاق النار وإعادة بعض الرهائن.
بالتالي إن عودة المختطفين الصهاينة هي أحد الأهداف الرئيسية للعملية العسكرية في قطاع غزة، ويتخذ الكيان الصهيوني جملة من الإجراءات العسكرية والسياسية لتحقيق ذلك من بينها سياسة الأرض المحروقة التي نراها كل يوم.
وبشكل عام إن وقف الأعمال العسكرية مع حزب الله، يمكن الكيان الصهيوني الاستفادة من فترة الراحة والضغط على حماس، بالإضافة إلى ذلك، مع صعود دونالد ترامب، الذي اتبع سياسات مؤيدة للغاية للكيان الصهيوني خلال فترة ولايته الأولى كرئيس، قد تزيد الولايات المتحدة دعمها العسكري لكيان الاحتلال، وهذا يعني أن الاتفاق المحتمل بين الكيان الصهيوني وحماس متوقف بسبب عدد من الخلافات أبرزها فيما بتعلق بانسحاب القوات الصهيونية من قطاع غزة والإدارة المستقبلية للقطاع.
وفي خضم هذه الظروف المعقدة والمخاطر المتزايدة التي تواجهها فلسطين وأمتها، لا يمكن أن نغفل عن دور المقاومة في قلب المعادلة، وأنها كانت وما تزال الأمل الحقيقي في تحرير الأرض واستعادة الحقوق المسلوبة، مع كل معركة خاضتها، وكل خطوة نحو التضحية، أثبتت المقاومة الفلسطينية قدرتها الفائقة على الصمود والتطور، رغم التحديات الجسيمة التي تواجهها من جميع الاتجاهات.
إن شعور العزيمة الراسخة لدى المجاهدين والمقاومين الفلسطينيين يزداد قوة كلما تعمق الظلم واشتدت الضغوط، فهي ليست مجرد مقاومة ضد الاحتلال، بل هي رسالة أمل للأجيال القادمة في أن الحرية ممكنة مهما كانت قوى الظلم والطغيان التي تحاول سحقها، صحيح أن الاحتلال يملك جيشاً وقوة كبيرة، لكن ما لا يستطيع أن يلمسه هو إرادة الشعب الفلسطيني وعزمه على استرداد أرضه، مهما كانت التضحيات.
وفي الوقت الذي يراهن فيه العدو على القوة العسكرية والتدمير الممنهج، فإن المقاومة الفلسطينية تواصل بناء قوتها من خلال وحدتها الداخلية، وتحقيق الإنجازات على الأرض، والتحلي بالروح المعنوية التي لا تهزم، فلسطين اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بحاجة إلى هذه الوحدة، لأننا نعلم أن الطريق إلى النصر لا يتم إلا بالتعاون والاصرار على تحقيق الأهداف الوطنية.
إن المقاومة هي أمل الأمة في استعادة الكرامة والأرض، وهي قوة لا تنكسر مهما تكالبت عليها قوى الظلام. كما أن الشعب الفلسطيني، بكل فئاته، مستعد ليكون الجسر الذي يعبر من خلاله الأمل إلى الحرية، مهما كانت التحديات، ستظل المقاومة رمزا للثبات في وجه أعتى قوى الظلم، ولن ينجح الاحتلال في كسر عزيمتنا. في النهاية، لن تكون الأرض إلا لنا، والحرية هي وعدنا.
عبد العزيز بدر عبد الله القطان / كاتب ومفكر – الكويت.