تُعد المحكمة الدستورية العليا في أي مجتمع بمثابة دُرة تاج المنظومة القضائية، خاصة وأن عملية اختيار قضاة هذه المحكمة لا تخضع بأي حال من الأحوال للإجراءات الإدارية التقليدية في التعيين؛ لكي تتحقق لهم الحرية الكاملة في اتخاذ القرارات الصائبة بعيدا عن أي ضغوط، وذلك لكونهم الملجأ والملاذ الأخير لتحقيق التوازن والعدالة في المجتمع، كما إن دورهم يتمحور حول النظر والتدقيق في مطابقة التشريعات والقوانين والأحكام الصادرة، مع الدساتير والأنظمة التشريعية السارية في السلطات الثلاث؛ القضائية والتنفيذية والتشريعية، وضمان ألّا تتناقض تلك النصوص مع المنظومة القانونية في مختلف مستويات السلك القضائي في أي بلد من البلدان.
والمحكمة الدستورية في العادة تمثل المرجع الأساسي والوحيد، وصاحبة القرار النافذ في تفسير نصوص القوانين والأحكام القضائية التي تصدر من المحاكم؛ لكون هذه المحكمة تمثل التشريع الأعلى في الدولة، ولا يجوز تجاوزه أو مخالفته أو المساس به، بعد بيانها وكشفها لحقيقة تلك القوانين من الاتجاهات المختلفة حول مدى مخالفتها أوتطابقها مع القانون خاصة الحكومات التي تحترم نفسها وتحترم كذلك مواطنيها.
وتمارس المحاكم الدستورية عملها من خلال استقبال الدعاوى المرفوعة لها من البرلمان أو السلطة التنفيذية أو أي جهة أخرى من أفراد المجتمع، وذلك حسب سلطاتها واختصاصاتها في الدساتير المكتوبة حسب كل دولة، وعلى وجه الخصوص النظر في دستورية القضايا أوالقضية المطعون فيها. ويمكن للمحكمة الدستورية التدخل المباشر لتحقيق الحق وإنفاذ حكم القانون عندما يشك قضاة المحكمة في عدم دستورية قانون معين، وبالتالي تقوم المحكمة الدستورية العليا بتحريك الدعوى لدراسة دستورية القضية المطروحة وفحصها والتدقيق فيها. والأهم من ذلك كله استشارة مثل هذا النوع من المحاكم وعرض مسودات القوانين والتشريعات الجديدة عليها قبل اعتمادها من السلطة التشريعية. وتختص المحكمة الدستورية العليا في معظم دول العالم بتفسير مواد الدساتير المعتمدة بناء على طلبات تقدم لها من مختلف الجهات ذات العلاقة. وقد يضاف إلى صلاحية المحكمة الدستورية في بعض الدول، محاكمة كبار المسؤولين في الدولة كرئيس الجمهورية مثلا، وكذلك القادة العسكريين عند الحاجة لمثل تلك الجلسات القضائية، ذلك لكون أن القرارات الصادرة من هذا النوع من المحاكم نهائية وغير قابلة للطعن باعتبارها أعلى سلطة قضائية في الدولة.
من هنا تأتي أهمية المحكمة الدستورية العليا في أي بلد لتحقيق مبادئ النزاهة والحوكمة، وقبل ذلك العدالة الاجتماعية بين مختلف الأطراف، والأهم من ذلك كله النظر في اختصاصات السلطات الثلاثة؛ وذلك لتجنب تضارب المصالح من خلال تمسك كل سلطة بما منحها دستور البلد النافذ والمطبق دون تجاوزات أوإخلال بالتوازن القائم بين تلك الأجنحة.
وقد أصبحت معظم الدول العربية تضم محاكم دستورية في أعلى هرم السلطة القضائية، بينما على مستوى دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية- على سبيل المثال لا الحصر- أسست دولة الكويت أول محكمة دستورية في المنطقة في مطلع سبعينيات القرن العشرين، ثم تبعتها بعد ذلك كل من دولة قطر ومملكة البحرين في العقد الأول من الألفية الجديدة. وعلى الرغم من هذا السباق المحموم بوجود أكثر من 15 محكمة دستورية في الوطن العربي؛ إلّا أن العدالة غائبة في معظم تلك الدول، فقد أكدت دراسات علمية منشورة في العديد من الدول الغربية هيمنة السلطة التنفيذية على المحاكم الدستورية العربية، فلم تعد تلك المحاكم تقوم بأداء مهامها من دون تدخل السلطات السياسية النافذة، والسبب في ذلك حسب تلك المصادر هو قيام البرلمانات أو الحكومات أو كلاهما معًا بتعيين قضاة المحاكم الدستورية لدوافع سياسية وأمنية؛ مما أضعف تلك المحاكم.
وهنا يجب التأكيد على هنا على النزاهة التامة للسلك القضائي في بلدنا العزيز عُمان، فقد وفقنا الله بمنظومة قضائية رفيعة المستوى تعمل بإخلاص وتفانٍ لتحقيق الحق والعدالة بين جميع مكونات المجتمع، وذلك في مختلف مستويات الترافع كالمحاكم: الابتدائية والاستئناف والعليا، التي تزخر بقامات علمية مميزة ومؤهلة على أعلى مستوى، تخرجت في أعرق الجامعات في عُمان وحول العالم، في مجالي الشريعة والقانون، كما إنَّ القضاء العُماني يحظى بالرعاية السامية لقائد هذا البلد، لكونه يتولى شخصيًا رئاسة المجلس الأعلى للقضاء.
وفي ظل ما تحقق في هذا المجال المُهم الذي يعد شريان الحياة لأي مجتمع من نجاحات على مستوى دول الإقليم، بات من الضروري- أكثر من أي وقت مضى- تأسيس محكمة دستورية عُليا؛ للنظر في القضايا المتعلقة بتضارب الاختصاصات والصلاحيات بين الحكومة ومختلف السلطات الأخرى في البلد، وعلى وجه الخصوص صلاحيات مجلس الشورى الواردة في قانون مجلس عُمان الصادر عام 2021، كاستخدام الأدوات الرقابية السبعة مثل: استجواب أعضاء الحكومة المنصوص عليها في القانون، عند وجود شكوك في أداء وأمانة هؤلاء المسؤولين تجاه الوطن والمواطن، وكذلك حل النزاعات المتعلقة بدستورية القوانين، والتشريعات والأحكام القضائية في البلاد بشكل عام. كل ذلك أصبح مطلبًا مُلحًّا في هذه المرحلة؛ وذلك لتعزيز الحوكمة في دولة المؤسسات والقانون التي نريد.
ومع العلم بأن المحكمة العليا تتولى بالفعل الفصل في المنازعات المتعلقة بمدى تطابق القوانين واللوائح مع النظام الأساسي للدولة وعدم مخالفتها لأحكامه من خلال تشكيل هيئة في تلك المحكمة ذات تشكيل خاص؛ فإن هذا الفريق يُعد نواةً للمحكمة الدستورية العُمانية في المستقبل بعون الله، والإرادة السامية لجلالة السلطان هيثم بن طارق المُعظم- حفظه الله ورعاه.
د. محمد بن عوض المشيخي / أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري